بازگشت

التفسير المعقول والمقبول


الروايات لا تخالف القرآن:

وقد ادعي البعض: أن قصر الآية علي علي، وفاطمة، والحسن، والحسين (عليهم السلام) يخالف نص القرآن [1] .

وقال إسماعيل حقي عن حديث الکساء: لو فرضت دلالته علي عدم کون النساء من «أهل البيت» «لما اعتُدَّ بها؛ لکونها في مقابلة النص» [2] .

ونقول له ولغيره:

1 ـ قد تقدم أن النبي (صلي الله عليه وآله) قد صرح بقصر الآية علي أصحاب الکساء، فإن کان ذلک يعتبر مخالفة لنص القرآن؛ فإن النبي (صلي الله عليه وآله) يکون أول من خالف هذا النص، والعياذ بالله.

2 ـ إننا خلافاً لهؤلاء، واتباعاً للنبي (صلي الله عليه وآله) نقول: إن ذلک ليس فقط


ليس فيه مخالفة لنص القرآن، ولا حتي لظاهره، وإنما هو منسجم معه تمام الانسجام وهو مقتضي دلالة سياقه أيضاً.

وأما إرادة الزوجات فليس لها ما يبررها، لا علي نحو الخصوص، کما ادعاه عکرمة، وأضرابه، ولا علي نحو الدخول في إطلاق الخطاب، ولو مجازاً. ويتضح ذلک بالتأمل فيما يلي من مطالب:

أهل اللغة ماذا يقولون:

وبالمراجعة إلي أهل اللغة، يتضح: أن إطلاق عبارة «أهل البيت» علي الزوجات، وکونهن مشمولات لها موضع شک کبير، إن لم نقل: إنه يمکن الجزم بخلافه، فقد قال الزبيدي:

«ومن المجاز: الأهل للرجل: زوجته ويدخل فيه الأولاد» [3] .

ومعني هذا: أن قول النبي (صلي الله عليه وآله) لأم سلمة: إنک من أهلي قد ورد علي سبيل المجاز أيضاً.

وعند ابن منظور: سئل النبي (صلي الله عليه وآله): اللهم صل علي محمد وآل محمد، من آل محمد؟

قال قائل: أهله، وأزواجه.

کأنه ذهب إلي أن الرجل تقول له: ألک أهل؟


فيقول: لا. وإنما يعني ليس له زوجة.

قال: هذا معني يحتمله اللسان. ولکنه معني کلام لا يعرف إلا أن يکون له سبب کلام يدل عليه، وذلک أن يقال للرجل: تزوجت؟

فيقول: ما تأهلت، فيعرف بأول الکلام: أنه أراد ما تزوجت.

أو يقول الرجل: أجنبت من أهلي، فيعرف أن الجنابة لا تکون إلا من الزوجة. فأما أن يبدأ الرجل، فيقول: أهلي ببلد کذا الخ [4] .

وهذا معناه أن دلالة کلمة الأهل علي الزوجة إنما تکون مع القرينة لا بدونها.

والراغب الأصفهاني أيضاً قد أشار إلي أن إرادة الزوجة من لفظ «الأهل» إنما هو من باب الإطلاق والاستعمال، الذي هو أعم من الحقيقة، فقد قال: «وعُبِّر بأهل الرجل عن امرأته» [5] .

وأخيراً فقد قال البعض: «لکن هل أزواجه من أهل بيته؟ علي قولين: هما روايتان عن أحمد.

إحداهما: أنهن لسن من «أهل البيت»، ويروي هذا عن زيد بن أرقم» [6] .


وظاهر کلام زيد: أنه ينکر ويستنکر صدق العنوان «أهل البيت» علي الزوجات بحسب اللغة والعرف کما سنري حين نقل کلامه مع مصادره الکثيرة، حين الکلام علي القول بأن المراد بـ «أهل البيت» هم جميع بني هاشم.

فظهر مما تقدم: أن أهل اللغة يقولون: إن الزوجة ليست من أهل الرجل.. ودلت نفس أقوال رسول الله (صلي الله عليه وآله) لأم سلمة، وعائشة، وزينب علي أنها ليست من «أهل البيت» ودل عليه أيضاً قول زيد بن أرقم حيث استنکر أن تکون الزوجة من أهل بيت الرجل.. إذ استدل علي ذلک بأن الزوجة تکون عند الرجل الدهر، ثم يفارقها فترجع إلي أهلها وقومها فکيف تکون من أهل بيته..

بل إننا نقول:

لنفترض جدلاً أن أهل اللغة يقولون بأن الزوجة أهل للرجل وأن زيد ابن أرقم لم ينکر کونها من «أهل البيت» لکن إخراج رسول الله (صلي الله عليه وآله) لهن، ومنعهن من الدخول تحت الکساء يدل علي أن للنبي (صلي الله عليه وآله) اصطلاحاً جديداً لا بد من الوقوف عنده، والانتهاء إليه، والالتزام به ولأجل ذلک حصر «أهل البيت» في خمسة، فلم يشمل العباس ولا أبناءه مع أن العباس أقرب نسباً إلي النبي (صلي الله عليه وآله) من علي (عليه السلام) ونسبة علي (عليه السلام) ونسبة أبناء العباس إلي النبي واحدة أيضاً.


السياق المنسجم:

قد يري البعض: أن ورود آية التطهير في ضمن آيات الخطاب مع النساء يبرر، دعوي اختصاص الآية بهن، أو شمولها لهن علي أقل تقدير کما سيأتي [7] .

ونقول:

إننا نرجئ الکلام حول الدلالة السياقية إلي موضع آخر سيأتي إن شاء الله، ونکتفي هنا بالقول: إن سياق القرآن لا يأبي عن إرادة خصوص أصحاب الکساء بل يبقي السياق علي حاله، لا ينخرم ولاينفصم، ولا يختلف، ولا يتخلف إن لم يکن هو المتعيّن، دون غيره مما ذکروه وذلک لما يلي:

الخطاب للنبي (صلي الله عليه وآله) لا للنساء:

قال الله تعالي:

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِکَ إِنْ کُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْکُنَّ وَأُسَرِّحْکُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً).

(وَإِنْ کُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآَخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ


لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْکُنَّ أَجْراً عَظِيماً).

(يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْکُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَکَانَ ذَلِکَ عَلَي اللهِ يَسِيراً).

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْکُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً کَرِيماً).

(يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ کَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً).

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِکُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَي وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّکَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَکُمْ تَطْهِيراً).

(وَاذْکُرْنَ مَا يُتْلَي فِي بُيُوتِکُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِکْمَةِ إِنَّ اللهَ کَانَ لَطِيفاً خَبِيراً).

وتستمر الآيات إلي أن تقول:

(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِکْ عَلَيْکَ زَوْجَکَ) [8] .


ثم تستمر الآيات في الحديث عن النبي (صلي الله عليه وآله) ومعه، ومع المؤمنين في ما يخص شأن النبي (صلي الله عليه وآله) فلتراجع.

ونقول:

ألف: إن الظاهر الصريح المستفاد من هذه الآيات هو أن الله سبحانه:

1 ـ قد أمر نبيه الأکرم (صلي الله عليه وآله) بأن يخيِّر نساءه بين الله ورسوله، وبين الحياة الدنيا وزينتها.

2 ـ وأمره بأن يقول لهن: يا نساء النبي لستن کأحد من النساء.

3 ـ وأمره أيضاً بأن يقول لهن:

لا تخضعن بالقول.

وقلن قولاً معروفاً.

وقرن في بيوتکن.

ولا تبرجن تبرج الجاهلية.

وأقمن الصلاة، وآتين الزکاة.

وأطعن الله ورسوله.

4 ـ وبعد أن ينفذ النبي (صلي الله عليه وآله) ما طلبه الله منه، ويبلغ هذه الأوامر للنساء، يواصل الله سبحانه خطابه لمقام النبوة، وبيت الرسالة، ليخبره: بأن هذه الأوامر والنواهي التي أمره أن يبلغها لهن، إنما جاءت لأجل الحفاظ علي قدسية بيت النبوة، ومهبط الوحي والتنزيل، ومختلف الملائکة.


وعلي هذا الأساس يکون: (يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ الخ) استمراراً لأمر الله تعالي لنبيه (صلي الله عليه وآله) بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِکَ..) فهو مقول القول أيضاً، علاوة علي ما سبق من تخييرهن بين الدنيا والآخرة.

ب: ولو صرفنا النظر عن ذلک، لأجل الإصرار علي أن قوله تعالي: (يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ کَأَحَدٍ الخ) إنما هو خطاب منه تعالي للنساء مباشرة؛ فإننا نقول أيضاً: إنه لا يضر فيما نرمي إليه؛ لأنه قد جاء علي سبيل الالتفات إليهن، وتکون النتيجة هي:

1 ـ أنه تعالي، قد أمر نبيه بأن يخير نساءه بين الله ورسوله، وبين الحياة الدنيا وزينتها.

2 ـ ثم التفت الله سبحانه إليهن وخاطبهن مباشرة، بعنوان أنهن منسوبات إلي النبي، لا بعنوان کونهن مجرد نساء. فأمرهن وزجرهن، وقرر لمن تأتي منهن بفاحشة مبينة: أن يضاعف لها العذاب ضعفين، ولمن تطيع الله ورسوله، أن تؤتي أجرها مرتين. وقرر أيضاً: أنهن لسن کأحد من النساء، إن التزمن جانب التقوي والورع.

3 ـ ثم عاد سبحانه وتعالي إلي خطاب مقام النبوة وبيت الرسالة من جديد، موضحاً أن سبب هذا الالتفات إلي الزوجات وعلة ما أصدره إليهن من أوامر وزواجر هو إذهاب الرجس عن هذا البيت، وتطهيره، فإن الحفاظ علي قدسية بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومهبط الوحي،


ومختلف الملائکة ضرورة لابد منها، لحفظ الرسالة نفسها.

فالخطاب للنبي ـ کما ظهر من خلال الآيات الشريفة ـ إنما هو من حيث إنه نبي، وصاحب وحي وقداسة إلهية، لا بما هو شخص.

ومن الواضح: أن حفظ بيت النبوة والرسالة، ما هو إلا حفظ للرسالة نفسها.

فالکلام مع النساء إذن، قد جاء علي طريق الالتفات إليهن، کالالتفات الذي في قوله تعالي: (مَالِکِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاکَ نَعْبُدُ وَإِيَّاکَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [9] .

فيلاحظ: أن الحديث قد کان عن الله تعالي بصورة الحديث عن الغائب الرحمان _ الرحيم _ مالک، ثم التفت وخاطب الله تعالي مباشرة من موقع الحضور بين يديه تعالي فقال (إِيَّاکَ نَعْبُدُ).

الإرادة بماذا تعلقت؟:

ويظهر من کلام العلماء الأبرار (رضوان الله عليهم): أن الإرادة الإلهية المعبر عنها بقوله تعالي: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْکُمُ..) قد تعلقت أولاً وبالذات بإذهاب الرجس، وبالتطهير [10] .


ولکننا نقول:

إن الظاهر هو أنها قد تعلقت أولاً وبالذات بأمر آخر، وهو نفس الأوامر والزواجر التي توجهت إلي زوجات النبي (صلي الله عليه وآله).

بيان ذلک:

أنه تعالي قال: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ). ولم يقل: إنما يريد الله أن يذهب، أو إذهاب الرجس عنکم.

ولو أنه قال يريد أن يذهب الرجس عنکم لکانت الإرادة متعلقة بنفس الإذهاب؛ وذلک معناه أن الرجس موجود فيهم ويريد الله إزالته عنهم وحاشاهم (صلوات الله عليهم) بل الصحيح هو أن الرجس ليس فيهم بل هو في غيرهم ويريد الله إزالته عن الغير حفاظاً وإکراماً لـ«أهل البيت» (عليهم السلام).

بيان ذلک:

أن کلمة «إنما» تفيد حصر المقصود والغاية من الأمر والنهي لنساء النبي (صلي الله عليه وآله) في حفظ «أهل البيت» وتطهيرهم.

واللام في «ليذهب» هي لام کي، وهي تفيد التعليل، أي أن ما بعدها يکون علة لما قبلها، کقولک: «جئت لأکرمک»؛ فمدخول اللام، وهو الإکرام، علة لما قبلها وهو المجيء.

فما ذکره البعض من أن متعلق الإرادة هو نفس إذهاب الرجس، ليس علي ما يرام لا من حيث الترکيب ولا من حيث المعني حسبما أوضحناه


بل متعلق الإرادة شيء آخر، ويکون الإذهاب علة لتعلق الإرادة به.

وذلک الشيء الذي تعلقت به الإرادة هنا هو نفس التکاليف، والأوامر والنواهي الصادرة لزوجات الرسول (صلي الله عليه وآله)؛ فإن الله سبحانه قد أراد منهن ذلک لأجل إذهاب الرجس.

وبتعبير آخر: إذهاب الرجس عن «أهل البيت» علة لإرادة الله سبحانه من زوجات النبي (صلي الله عليه وآله) ـ بالإرادة التشريعية ـ أن يفعلن کذا، أو يترکن کذا.

فلا دلالة في الآية علي أن النساء من «أهل البيت»، بل فيها دلالة علي العکس إذ لو کانت النساء داخلات في مدلول الآية لکان المناسب أن يقول: إنما يريد الله أن يذهب عنکم الرجس لأن نساءه قد صدر منهن أشياء هي من الرجس ومنها حرب الجمل بقيادة بعض نسائه (صلي الله عليه وآله).. أضف إلي ذلک أن لا رجس علي الرسول (صلي الله عليه وآله) ليريد الله إزالته عنه ويتضح ذلک بملاحظة النظائر التي استعملت فيها لام کي، بدلاً من کلمة «أن» في القرآن الکريم، وغيره.

فلاحظ: قوله تعالي في ذيل آية الوضوء والتيمم: (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْکُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَکِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَکُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْکُمْ) [11] .

أي أن أمره تعالي لکم بالتيمم بدلاً عن الوضوء، إنما هو لأجل أن يطهرکم.

فالتطهير لهم علة لإرادة هذا الأمر منهم بالإرادة التشريعية.


وفي مورد آخر، بعد أن ذکر الله تعالي بعض التشريعات والأحکام قال:

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَکُمْ وَيَهْدِيَکُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِکُمْ) [12] .

وقال تعالي في موضع آخر: (بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) [13] .

وفي مورد آخر يقول تعالي: (فَلاَ تُعْجِبْکَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [14] .

ومما يزيد الأمر وضوحاً: أننا نجد آيتين قد تعرضتا لأمر واحد، ولکن إحداهما قد جاءت «بأن» والأخري «بلام کي»، التي تقدر بعدها أن.

فبعد أن ذکر الله سبحانه قول اليهود والنصاري في عزير، والمسيح، قال: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِکُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَي اللهُ إِلاَ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ کَرِهَ الْکَافِرُونَ) [15] .

وقال تعالي في مورد آخر: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَي عَلَي اللهِ الْکَذِبَ


وَهُوَ يُدْعَي إِلَي الإِسْلاَمِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ کَرِهَ الْکَافِرُونَ) [16] .

والسبب في اختلاف التعبير أنهم في المورد الأول (أي في سورة التوبة) قد تعلقت إرادتهم مباشرة في إطفاء نور الله، فاستعمل الله کلمة «أن»، وقال: يريدون أن يطفئوا.

أما في هذا المورد الأخير فقد تعلقت إرادتهم بالافتراء علي الله، لأجل أن يطفئوا، فالإطفاء کان داعياً لهم، وعلة وسبباً لتعلق إرادتهم بالافتراء والکذب، فاستعمل «اللام» فقال: «يريدون ليطفئوا».

ثم رأيت أن الراغب الأصفهاني قد أشار إلي ذلک أيضاً، فقال: «يريدون أن يطفئوا نور الله، يريدون ليطفئوا نور الله.

والفرق بين الموضعين: أن في قوله: «يريدون أن يطفئوا»، يقصدون إطفاء نور الله. وفي قوله: «ليطفئوا» يقصدون أمراً يتوصلون به إلي إطفاء نور الله» [17] .

والأمر في آية التطهير کذلک أيضاً کما أوضحناه.


الأولوية القطعية ومفهوم الموافقة:

من الأمور التي لا يجهلها أحد: أن الأولوية القطعية هي من الظهورات اللفظية التي جري عليها القرآن، کما جري عليها أهل اللسان في محاوراتهم، وبيان مراداتهم.

والأولوية القطعية، ومفهوم الموافقة هذا موجود هنا أيضاً، ويدل علي عصمة «أهل البيت» (عليهم السلام) بشکل قاطع ونهائي.

التوضيح بالمثال:

وتوضيح ذلک بالمثال علي النحو التالي:

إنه إذا کان ثمة رجل يعزّ عليک، وتهتم بالحفاظ علي مقامه، وترسيخ وتأکيد احترامه، فإنک ستنزعج کثيراً إذا رأيت ولده أو غيره ممن ينتسب إليه يرتکب بعض المخالفات التي تسيء إلي سمعة أبيه، وتدفع بالناس إلي توجيه النقد إلي ذلک الأب، ولسوف تردع ذلک الولد عن فعله ذاک؛ بهدف الحفاظ علي کرامة الأب، وسمعته.

أما الولد نفسه، فقد لا يکون واقعاً في دائرة اهتماماتک أصلاً، بحيث لو لم يکن ابناً لذلک الرجل لما تعرضت له، ولما وجدت الدافع القوي في نفسک لأمره ولا لنهيه.

والحال في الآيات الشريفة من هذا القبيل، فالله إنما يأمر وينهي نساء النبي الأکرم (صلي الله عليه وآله)، لأن مخالفاتهن سوف تنعکس سلباً علي أهل


بيت الرسالة أنفسهم. فـ«أهل البيت» هم الأهم ولا يريد الله سبحانه أن ينالهم أدني رجسٍ أو هنات، ولو من طرف خفي، کما لو کان ذلک الرجس صادراً ممن ينسبون إلي ذلک البيت نسبة مجازية، کما تقدم عن أهل اللغة عن زيد بن أرقم، وأوضحه الرسول (صلي الله عليه وآله) في حديث الکساء.

وهذا هو غاية الاهتمام بـ«أهل البيت»، وهو يقع في سياق شمولهم بالعنايات والألطاف الإلهية، والتوفيقات الربانية.

ومعني ذلک کما قلنا: أن الدلالة علي الاهتمام الإلهي بطهر «أهل البيت»، وعدم لحوق أي رجس بهم أولاً وبالذات، لسوف تکون أشد وأعظم وأهم، وآکد وأتم.

ثم إنه إذا کان الله تعالي يريد أن يذهب حتي الرجس الذي ينسب إلي «أهل البيت» (عليهم السلام)، ولو بالعرض والمجاز، فإنه يريد إذهاب ما يلحق بهم (عليهم السلام) أولاً وبالذات بطريق أولي؛ فنستفيد، بمفهوم الموافقة والأولوية القطعية: أن الله سبحانه قد طهرهم ونزههم فعلاً عن الرجس، لاسيما وأن المقام مقام تعظيم لبيت النبوة، وهو يدخل في نطاق خطة إلهية، تعمل علي إبعاد الرجس بکل حالاته ومجالاته، حتي ما کان منه ليس لهم فيه أي اختيار، بأن کان صادراً عن أشخاص آخرين کالزوجات.

فإذا کان الله سبحانه يبادر للمنع من حصول هذا، حتي لَيقرر للزوجات ضعفي العذاب، والثواب لو بدرت منهن أية بادرة، فإن ذلک يکشف عن تصميم إلهي أکيد علي أن لا يلحق «أهل البيت» أنفسهم


رجس أصلاً، لا أولاً وبالذات ولا ثانياً وبالعرض.

ومما يشير إلي أن الأهمية إنما هي لأهل بيت النبوة لا للزوجات ـ بل هنّ کغيرهن من بني الإنسان، ما ألمحت إليه الآيات التي سبقت الآيات التي هي مورد البحث والتي تحدثت عن أن الله تعالي قد أمر نبيه بأن يخير زوجاته بين الحياة الدنيا وزينتها، فيمتعهن النبي (صلي الله عليه وآله)، ويسرحهن سراحاً جميلاً.. وبين الله ورسوله، والدار الآخرة، فإن الله ـ والحالة هذه ـ قد أعد للمحسنات منهن أجراً عظيماً.

فهذا التخيير يشير إلي أنه ليس للزوجات أهمية مميزة، وترجيح خاص لهن.

وفي الآية أيضاً إشارة إلي أن اللواتي يخترن الله ورسوله قد کن علي قسمين: محسنات وغير محسنات.

أضف إلي ذلک: أن السورة نفسها قد ذکرت بعد ذلک: أن النبي (صلي الله عليه وآله) کان بالخيار بين أن يرجي من يشاء منهن، وأن يؤوي إليه من يشاء.

فکل ذلک يشير بوضوح: إلي أن الأهمية الباعثة علي تسجيل الموقف هنا إنما هي للنبي (صلي الله عليه وآله)، وأهل بيت النبي (صلي الله عليه وآله) بما هو نبي وقد قال الإمام الحسين (عليه السلام): إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة ومختلف الملائکة.

وبيت النبوة له حالات وشؤون يجب مراعاتها وهناک تکاليف ومسؤوليات تجاهه يجب الالتزام بها. خصوصاً من قبل الزوجات وليس المراد «أهل البيت» بمعني السکن ولا «أهل البيت» بمعني العشيرة..


وقد أکد ذلک حين اختار أن يخاطبه بالقول: يا أيها النبي قل لأزواجک ويخاطبهن بالقول: يا نساء النبي ولم يقل: يا نساء الرسول أو نحو ذلک ولم يقل: أيتها النساء أو يا محمد، حتي لا يفهم الأمر علي أنه حديث معه کشخص من الناس أو يقال إن الهدف هو الحفاظ علي ثقة الناس به وانقيادهم له کرسول، من خلال سلوک زوجاته.

کل ذلک يدل علي أن الأمر والزجر للزوجات لا لخصوصية وامتياز ذاتي لهن، إذ قد ظهر من الآيات أنه يعاملهن معاملةً عادية جداً.

بل الخصوصية هي للنبي (صلي الله عليه وآله)، بما هو نبي وهي التي توجب الحفاظ عليه ولأجل ذلک قرر سبحانه أن يکون العذاب والثواب لزوجاته ـ هذا النبي بما هو نبي ـ ضعفين في صورة المخالفة والموافقة، حتي إنهن إذا خرجن عن صفة الزوجية للنبي بما هو نبي، فإنهن کما دلت عليه آية التخيير يصبحن کسائر النساء الأُخريات.

ولأجل ما ذکرناه بالذات کان التهديد الإلهي للتين تظاهرتا علي النبي (صلي الله عليه وآله) بالطلاق، ثم ضرب لهن مثلاً بامرأتي نوح ولوط، وما کان لهما من المصير الذي انتهتا إليه.

هذا.. ونلاحظ أخيراً: أن القرآن قد تحدث في موارد متعددة عن زوجات الرسول بطريقة تُظهر أنهن لسن في منأي عن ارتکاب الذنب، فلتلاحظ آيات سورة الأحزاب، والطلاق، والتحريم.

وقد حکي سبحانه عن صدور مخالفات کبيرة من بعضهن، ولم


يمنع من صدور المزيد من ذلک في المستقبل، کما قد حصل ذلک بالفعل ممن خضن منهن حروباً قتلت فيها الألوف من النفوس المسلمة والبريئة، دونما سبب معقول، أو مقبول.

أما «أهل البيت» فقد تحدث الله تعالي عنهم في هذه الآية، وعلي لسان نبيه في عشرات المواقع والمواضع بطريقة مباينة تماماً، لحديثه عن الزوجات فأوضح أن الله سبحانه قد عصمهم وطهرهم، کما أنه (صلي الله عليه وآله) قد جعلهم بأمر الله عِدْلاً للقرآن، وسفينة للنجاة، والعروة الوثقي، إلي غير ذلک مما يظهر بملاحظة النصوص المشهورة والمتواترة، والتي تفوق حد الحصر والعدّ.

وبذلک کله ظهر أنه تعالي يريد بأوامره للزوجات أن يتوسل إلي إذهاب الرجس عن «أهل البيت»، وقد جاء التعبير بالإذهاب لا بالإزالة ربما ليشير إلي أن الرجس ليس فيهم وإنما هو يتوجه إليهم عن طريق غيرهم، فيحل في غيرهم «کالزوجات» لينسب إليهم بالعرض والمجاز خصوصاً وأن النبي المعصوم بالقطع واليقين من جملتهم..

الإرادة تشريعية:

ومن المعلوم: أن الإرادة علي نحوين:

تکوينية:

وهي التي تتعلق بفعل المريد نفسه، أي بتکوين الشيء وإيجاده. کالإرادة الإلهية التي تعلقت بإيجاد الزرع والشجر والشمس والقمر.


وتشريعية:

وهي التي تتعلق بفعل الغير، علي أن يصدر العمل منه باختياره.

وقد اتضح مما تقدم: أن الإرادة الملحوظة في الآيات أولاً وبالذات. لم تتعلق بإزالة الرجس مباشرة لکي تکون إرادة تکوينية بل هي إرادة تشريعية تعلقت بأوامر وزواجر موجهة إلي زوجات الرسول الأکرم (صلي الله عليه وآله).

وهي إرادة منبثقة عن إرادة أخري ـ سيأتي الحديث عنها إن شاء الله ـ تعلقت بإذهاب الرجس عن «أهل البيت»، وتطهيرهم إلي درجة العصمة. والإرادة الأولي قد دلت عليها الآية صراحة أما الإرادة الثانية فقد دُلّ عليها بمفهوم الموافقة، والأولوية القطعية.

الإرادة التشريعية أولي وأدل:

ولاشک في أن الإرادة التشريعية أشد وآکد، وأکثر رسوخاً وجديةً من إرادة التکوين، في دلالتها علي عظيم فضل «أهل البيت» (عليهم السلام) وذلک لأن الله سبحانه وهو في مقام جلاله وعزته يهتم بأن لا يلحق بيت النبوة ـ لا العشيرة ولا بيت السکني ـ وهم الخمسة أصحاب الکساء أدني شيء يوجب حزازة وإساءة إليهم ولو من طرف خفي ولو بالانتساب المجازي إليهم، بل هو يضع أحکاماً إلزامية يلزم بها أناساً آخرين ليسوا منهم بل لهم بهم علقة عرضية بسبب مصاهرة توجب الاختلاط بهم. فيأمر أولئک الأغيار وينهاهم ثم يعاقبهم علي مخالفة أوامره وزواجره فذلک يکشف عن درجة الاهتمام بأولئک الناس الذين يريد الحفاظ عليهم.


أما لو کانت الإرادة تکوينية وقد تعلقت بإذهاب الرجس عنهم فإنها لا تدل علي عظيم فضلهم عنده، إذ لو فرضنا أن إرادة التکوين قد تعلقت بخلق شيء بعينه فإن ذلک لا يدل علي عظمة ذلک المخلوق.

وإرادة خلق الذباب لا تدل علي عظمة الذباب بل تدل علي الحاجة إليه. کما أن حاجتنا إلي سائق سيارة لا تدل علي عظمة ذلک السائق ولا علي قداسته نعم قد يکون لذلک السائق قداسته لأسباب أخري غير مجرد کونه سائقاً.

والأمر هنا کذلک، فإنه حينما يشرع الأمر والنهي لأناس آخرين ويبيّن أنه يضاعف العقاب علي المخالفة من أجل الحفاظ علي غيرهم فإن العظمة لذلک الغير تصبح ظاهرة ولا حاجة إلي الاستدلال عليها بأکثر من ذلک.

بل قد يقال: لو کانت الإرادة في الآية تکوينية تتعلق بإزالة الرجس عنهم فإن ذلک قد يکون علي العجز والضعف أدل، لدلالتها علي الحاجة إلي التدخل الإلهي للمساعدة، وهذا التدخل کما يمکن أن يکون للتکريم، کذلک يمکن أن يکون لظهور الحاجة والضعف.

الخبر الصادق والشهادة الإلهية:

والحاصل: أن الآية تتضمن إخباراً عن أن الله سبحانه يرعي «أهل البيت»، ويريد تطهيرهم من کل رجس، حتي ما کان منه ثانياً وبالعرض.


وذلک يعني أنهم قد حصلوا علي الطهارة التامة بالفعل، فاستحقوا منه هذه العناية التامة وهذا التکريم العظيم فاختصاصهم بهذه العناية الإلهية يتضمن إخباراً صادقاً وشهادة إلهية [18] بأنهم حاصلون علي مزية الطهر، ونفي الرجس، دون کل من عداهم، إلي درجة العصمة التي صرح بها الرسول الأکرم (صلي الله عليه وآله) ـ مستشهداً بهذه الآية «آية التطهير» بالذات حيث قال: «فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب» [19] .

وفي دعاء عرفة يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام): «وطهرتهم من الرجس والدنس تطهيراً بإرادتک، وجعلتهم الوسيلة» [20] .

وکلام الأئمة (عليهم السلام) في أن الله تعالي قد أذهب الرجس عن «أهل البيت» وطهرهم تطهيراً فعلاً کثير جداً، لا مجال لاستقصائه، فراجع أدعيتهم، ومجادلاتهم مع المنکرين لفضائلهم وغيرها [21] .


التطهير لا يشمل النساء:

وبعد: وقد اتضح من جميع ما قدمناه أن آية التطهير لا تشمل زوجات رسول الله ولا تنطبق إلا علي أهل الکساء، إذ انها قد دلت علي عصمة «أهل البيت» (عليهم السلام) من کل ذنب، والفقرات المتعلقة بنساء النبي (صلي الله عليه وآله)، قد قررت إمکان صدور الذنب منهن.

بل وتوقع وقوعه من بعضهن أيضاً، کما ربما يشير إليه الوعيد بمضاعفة العذاب ضعفين، وقوله تعالي: (لَسْتُنَّ کَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) ثم علق ذلک علي التقوي فقال: (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) وأوضح من ذلک وأقربه إلي التوبة، قوله تعالي: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِکُنَّ).. وهي الآية التي کان المسلمون يواجهون بها عائشة حين خرجت لحرب علي (عليه السلام).

ولبيان ما نرمي إليه في توضيح المراد من الآية، نقول:

أن کلمة «إنما» تثبت ما نفته «ليس» عند الزجاج وغيره، کقوله تعالي: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ)، ومتعلق التطهير، وهو الرجس، مطلق محلي بـ «أل الجنسية» فالآية تفيد نفي ماهية جنس الرجس بنحو العام الاستيعابي المجموعي عن «أهل البيت».

کما أن المقام مقام تشريف وتکريم، ويقصد فيه التأکيد التام، ولأجل ذلک نراه تعالي قد نص علي التطهير بعد ذکره إذهاب الرجس، مصدّراً بأداة الحصر، ثم أکده بالمصدر الذي هو مفعول مطلق، وهو کلمة «تطهيراً»


منوناً بتنوين التعظيم، أو التنکير، ليذهب الذهن فيه کل مذهب.

کل ذلک ليفيد ـ علي حد تعبير السمهودي: أن إرادته تعالي، منحصرة علي تطهيرهم، ثم أکده بما يدل علي أن طهارتهم طهارة کاملة، وفي أعلي مراتب الطهارة [22] .

وکل ما ذکرناه لا يتناسب مع القول بأن الإرادة في الآية المتعلقة بإذهاب الرجس مجرد إرادة تشريعية قد دل عليها بمفهوم الموافقة حسبما تقدم بيانه، فيکون المعني أن الله سبحانه يريد من «أهل البيت» تشريعاً أن لا يفعلوا ما فيه رجس والسبب في أن ذلک لا يتناسب مع ما ذکرناه هو: أن الله سبحانه وتعالي يريد للبشر جميعاً أن يعملوا بالتکاليف والأحکام، ولا يرضي منهم بالتخلف ولو في مورد واحد، ولا ينحصر ذلک في زوجات النبي (صلي الله عليه وآله)، ولا في «أهل البيت» (عليهم السلام)، فلا يبقي مبرر لهذا الحصر، وذلک التأکيد، ولا معني للتشريف والتکريم، وإفادة امتيازهم عن کل احد، بأمرٍ لا اختصاص لهم به.

ولأجل ذلک نجد عدداً من العلماء، قد قال: إن الإرادة في آية التطهير هي إرادة تکوينية، يستحيل انفکاکها عن تحقق المراد، فيستحيل لحوق الرجس بهم، وانفکاک الطهارة عنهم [23] .


بل لقد استفادوا من الآية عصمة «أهل البيت» حتي عن السهو والخطأ والنسيان وسيأتي بيان ذلک، إن شاء الله تعالي.

ونحن نوافقهم علي ذلک ولکننا نخالفهم في قولهم بأن الإرادة تکوينية..

توضيح حول اختيارية العصمة:

وبعد أن اتضح: أن الإرادة الملحوظة في الآية أولاً وبالذات والمصرح بها بکلمة «يريد»، هي الإرادة التشريعية، ولکنها منبثقة عن إرادة أخري تکوينية متعلقة بنفس التطهير لـ«أهل البيت» (عليهم السلام)، والتي ينتج عنها حقيقة: أنهم (عليهم السلام) معصومون من الذنوب بالفعل ـ نعم بعد وضوح ذلک ـ فإن السؤال الذي يلح بالإجابة عليه هنا هو: هل هذه العصمة اختيارية؟ أم أنها مخلوقة فيهم، بصورة جبرية! بحيث لا يمکنهم التخلف عن الخير، ولا التصدي لفعل الشر تکويناً؟!.

والجواب:

إنه لا شک في أن العصمة من الذنب وغيره [24] اختيارية، وليس فيها


أي نوع من أنواع الإکراه والإجبار ولولا ذلک لبطل الثواب والعقاب، ولزمت محاذير أخري، ونوضح ذلک في ما يلي:

إن الله تعالي هو الذي يفيض الوجود علي الناس، وعلي أفعالهم ولکن العباد هم الذين يختارون أفعالهم ويبادرون إليها. والله لا يبخل بإفاضة الوجود عليهم وعليها.

فآية التطهير تفيد:

أنه تعالي قد علم أن الأئمة لا يختارون إلا ما شرعه الله ويرضاه.

وذلک بسبب ما زودهم الله تعالي به من استعدادات ذاتية، وملکات نفسانية، وتوفيقات إلهية، وإمدادات غيبية. وبسبب أن عقولهم راجحة وفطرتهم معتدلة، وميزاتهم متوازنة وبسبب معرفتهم بما هو حق وباطل، وبما هو حسن وقبيح، بجلال الله وعظمته، وقدرته وسائر صفاته جل وعلا، نعم بسبب ذلک کله يسعون إلي نيل الکمالات، وإلي الحصول علي أسمي الدرجات، والله لا يبخل عليهم لتنزه ساحته عن البخل، فيفيض عليهم من نعمه ويغمرهم بفيض کرمه علي قاعدة:

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًي وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [25] .

(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ


الْمُحْسِنِينَ) [26] .

إذن، فالله سبحانه إذا کان يعلم: أنهم لا يختارون، إلا ما هو حسن وجميل، وما هو حق، وصلاح وفلاح، وأنه سوف يستجيب لإرادتهم تلک باستمرار ولن تتعلق إرادته التکوينية إلا بهذا النوع من الأفعال المرضية، والمحبوبة له تعالي، فيصح أن يخبرنا تعالي ـ بواسطة مفهوم الموافقة في الآية الکريمة، کما تقدم ـ عن أنه سوف لن يريد بالإرادة التکوينية إلا إذهاب الرجس والتطهير لهم.

تماماً کما هو الحال في الأنبياء الذين هم معصومون أيضاً، فإن الله لا يريد بالإرادة التکوينية إلا ما يختارونه هم.. وهم لا يختارون إلا ما هو خير وصلاح، وفلاح، ونجاح.

والسر في عدم اختيارهم إلا ما شرعه الله ويرضاه، أن الإنسان حيث يکون علي درجة من الخلوص والصفاء، لم تنجسه الجاهلية بأنجاسها، ولم يرث عن سلفه إلا الخصال الحميدة، والمزايا الفريدة، وقد تهيأ له أن يتربي خير تربية، وحصل علي أفضل المزايا الأخلاقية والإنسانية، وکان علي درجة عالية من التعقل والوعي، والمعرفة بالله، وبشرائعه وأحکامه، مع سلامة في الفطرة، وتوازن في المزايا، ومع قوة في الإرادة، فإنه سوف لا يفکر في الإقدام علي أي قبيح. بل هو سوف ينفر من ذلک، ويتأذي منه، مع أن له


تمام الاختيار والحرية، والقدرة علي أن يفعل أو لا يفعل.

ولکنه حيث يراه منافياً لإنسانيته، وموجباً للنقص والتلاشي لکمالاته وخصائص شخصيته؛ فإنه لا يقدم علي ارتکاب ذلک الأمر القبيح مهما کانت الظروف، وأياً کانت الأحوال، تماماً کما (وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّکَ أَحَداً) [27] مع قدرته تعالي علي ذلک، والسبب هو منافاة ذلک لمقام ذاته الأقدس، ولکماله، وعدله، ولألوهيته سبحانه.

وکما لا يقدم الإنسان العاقل والمتوازن علي شرب السم. وکما لا يقدم الطفل علي وضع يده في النار، وکما لا تقدم الأم علي ذبح ولدها، ولا علي فعل کثيرٍ من الأشياء التي يري الإنسان: أن فعلها مخل بکرامته، وبشخصيته.

فاتضح: أن مراد علمائنا من قولهم: إن الإرادة في آية التطهير تکوينية لا تشريعية هو ذلک، وليس المراد: أن العصمة مخلوقة فيهم بصورة إجبارية، بحيث يفقدون معها القدرة علي المخالفة هنا، والموافقة هناک.

خروج الآية عن مورد البحث:

ونحن، وإن کنا قد قلنا، إننا قد لا نمنع من أن يکون ما أراده علماؤنا الأبرار (رضوان الله تعالي عليهم) صحيحاً، ولکننا أوضحنا أيضاً أننا نري: أن للآية الشريفة التي هي مورد البحث منحي آخر، وأنها


بدلالتها اللفظية لا تتلاءم مع محذور الجبر، ولا تلتقي معه ولا هي ناظرة إليه، لا من قريب، ولا من بعيد، إذ أن الإرادة فيها التي دُلّ عليها باللفظ هي التشريعية، وأما الإرادة التکوينية فقد دُلّ عليها بمفهوم الموافقة، وهي لم تتعلق بفعل الإنسان أصلاً، ونعود فنوضح ذلک فيما يلي:

إننا نستفيد من إسناد الإذهاب والتطهير إلي الله سبحانه، في قوله: (يُذْهِبَ) وَ (يُطَهِّرَکُمْ) ثم من العدول في الآية عن التعبير بـ «يريد أن يذهب» إلي التعبير بـ (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ): أنه تعالي قد تعلقت إرادته أولاً وبالذات بإذهاب الرجس، وإبعاده. لا بإجبار «أهل البيت» وقهر إراداتهم ومنعها من التحرک نحو الرجس.

بل هو تعالي يريد أن يقذف بالرجس ويرمي به بعيداً عنهم (عليهم السلام)؛ فإن قربه منهم وقربهم منه مبغوض له تعالي، علي حد قوله تعالي: (وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) [28] .

وقوله تعالي: (وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ کَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً) [29] .

وثمة آيات عديدة أخري تشير إلي ذلک.

فالله سبحانه قد أراد أن يبعد الرجس وکل العيب عن «أهل البيت»،


ولو ثانياً وبالعرض کالذي يصدر من زوجات النبي (صلي الله عليه وآله)، اللواتي لسن حقيقة من «أهل البيت». وذلک إظهاراً لکرامتهم، وليزيد من درجة الحصانة تجاه ذلک الأمر المبغوض، حيث لا تبقي أية حالة من الملابسة له، أو استنشاق روائحه والعيش في أجوائه. هذا بالإضافة إلي الحصانة الکامنة فيهم (عليهم السلام)، عن طريق معرفتهم بالله سبحانه، وقوة ورسوخ ملکاتهم، فلا يختارونه، ولا يفکرون فيه، بل ويتأذون منه وينفرون عنه. رغم أن إرادتهم طليقة وحرة، ولا يمارس أحد عليها أي ضغط أو إکراه، کما أوضحناه فيما سبق..

خلاصة وتوضيح:

وآخر توضيح لنا هنا:

إن هناک إرادة تشريعية في الآية، وقد تعلقت بالأوامر والزواجر الموجهة إلي زوجات رسول الله (صلي الله عليه وآله) وهو ما تعلقت به کلمة: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ).

وهي منبثقة عن إرادة تکوينية تعلقت بإبعاد الرجس عنهم، والتطهير لهم. ونستفيد هذه الثانية بالدلالة عليها بمفهوم الموافقة المستند إلي الإشعار بها من خلال نسبة إذهاب الرجس والتطهير في قوله تعالي: (يُذْهِبَ عَنْکُمُ) و(يُطَهِّرَکُمْ) إلي الله سبحانه. لأن الفاعل لکلا الفعلين المذکورين إنما هو ضمير عائد للفظ الجلالة المتقدم في (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ).


ولکن هذه الإرادة التکوينية له تعالي، إنما تعلقت بإبعاد الرجس وبالتطهير. ولم تتعلق بنفس الفعل الصادر عن «أهل البيت»؛ حيث إنه تعالي لم يقل: يريد الله أن يجعلکم تفعلون هذا وتجتنبون ذاک مثلاً؛ لتکون إرادتهم مقهورة لإرادته سبحانه تعالي التکوينية.

بل تعلقت بإبعاد الرجس عنهم، بتوجيه الأوامر والنواهي لغيرهم إکراماً لهم، مع إبقاء إرادتهم حرة طليقة، من دون أدني تعرض لها. بل قد صرف النظر عنها بالکلية، حسبما أسلفناه.

وآخر ما نشير إليه هنا هو أننا نلاحظ: أنه تعالي قد علق طهارة النساء علي إرادتهن فقال: (إِنْ کُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا..) وقال:(إِنْ کُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ..).

ولکنه تعالي حين تحدث عن طهارة «أهل البيت»، فإنه قد جعل طهارتهم متعلقاً لإرادته هو سبحانه وتعالي، سواء الإرادة التشريعية، المصرح بها في قوله تعالي: (يُرِيدُ اللهُ) من خلال الأوامر الموجهة إلي النساء أو التکوينية المتعلقة بالتطهير وإبعاد الرجس عن «أهل البيت» (عليهم السلام)، والمدلول عليها بمفهوم الموافقة، مع الإلماح إليها بإسناد التطهير وإذهاب الرجس إليه تعالي.

الإمامة في آية التطهير:

ولا يفوتنا هنا التنبيه إلي أنه ربما يکون السر في إصرار البعض علي


التصرف في مدلول الآية، رغم وجود الروايات الصحيحة والمتواترة التي تؤکد اختصاصها بالخمسة أصحاب الکساء، هو خشيتهم من التقدم خطوة أخري باتجاه ربط الآية بموضوع الإمامة، فإن ذلک لسوف يتسبب في إيجاد إحراجات کبيرة لهم، ولأولئک الذين يريدون إبعاد أهل بيت النبوة (عليهم السلام) عن موضوع الإمامة، ليتسني لهم إثبات شرعية خلافة وإمامة الذين استأثروا بهذا الأمر لأنفسهم، رغم النصوص الکثيرة جداً والمتواترة في أکثر من مورد، وأکثر من مناسبة علي ضد ما يريدون، وعلي خلاف ما يشتهون.

ويتأکد هذا الإحراج فيما يواجهونه من إصرار أکيد من قبل «أهل البيت» (عليهم السلام)، علي أن الإمامة حق لهم، دون کل من سواهم، وقد شاع هذا الأمر عنهم وذاع، إلي حدٍ لا يمکن لأحد أن يرتاب أو أن يشکک فيه.

فإذا کانوا مطهرين بنص هذه الآية الشريفة، فلابد من قبول کل ما يقولونه وينقلونه حول هذا الأمر، وسواه، والتسليم والبخوع لهم فيه.. وذلک يعني وضع علامة استفهام کبيرة حول شرعية خلافة الآخرين.

وهذا ما لا يمکن لهؤلاء أن يتصوروه، أو أن يفکروا فيه، في أي من الظروف والأحوال.

ولأجل ذلک فلا مانع لدي هؤلاء من التلاعب بالآية القرآنية والتشکيک، والتصرف في دلالتها، کما لا مانع من ردّ الروايات المتواترة والصحيحة والصريحة، أو التمسّک في مقابلها بما هو أوهي من بيت العنکبوت، کما سنري.


لا يمسّه إلا المطهرون:

وفي اتجاه آخر، فإننا نجد بعض العلماء يقول:

إننا إذا راجعنا تفسير آية: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِيمٌ فِي کِتَابٍ مَکْنُونٍ لاَ يَمَسُّهُ إِلاَ الْمُطَهَّرُونَ) [30] .

فإننا نجد: أن تفسيرها الذي هو الأقوي عند العلماء والأوفق بسياق الآيات: هو أن المراد بمس القرآن نيل معانيه، والوصول إليها، والوقوف عليها، وذلک لا يکون إلا للذين طهرهم الله سبحانه، وهم «أهل البيت» وأصحاب الکساء خاصة دون کل من عداهم..

ومعني ذلک: هو أنهم حين جعلهم الله عدلاً للکتاب في حديث: إني تارک فيکم ما إن تمسکتم به لن تضلوا بعدي أبداً، کتاب الله وعترتي أهل بيتي. فإنما أراد بذلک أن يکونوا دون سواهم هم الذين يفسرون القرآن للناس، وأن يکونوا القائمين علي دين الله، وتطبيق أحکامه، ونشر تعاليمه، وذلک هو ما يراد من الإمامة والخلافة بعده (صلي الله عليه وآله).



پاورقي

[1] تهذيب تاريخ دمشق ج4 ص208 وروح البيان ج7 ص171.

[2] روح البيان ج1 ص171.

[3] تاج العروس ج1 ص217.

[4] لسان العرب ج11 ص38.

[5] مفردات الراغب ص29.

[6] منهاج السنة ج4 ص21.

[7] ستأتي مصادر هذا القول حين الکلام حول الاستدلال بالسياق علي اختصاص الآية بالزوجات أو شمولها لهن.

[8] الأحزاب الآية28/37.

[9] سورة الفاتحة الآية 3/5.

[10] ستأتي المصادر لذلک إن شاء الله تعالي حيث الحديث حول انحصار آية التطهير بأهل الکساء.

[11] سورة المائدة الآية6.

[12] سورة النساء الآية26.

[13] سورة القيامة الآية5.

[14] سورة التوبة الآية 55.

[15] سورة التوبة الآية31 و32.

[16] سورة الصف الآية 7 و8.

[17] المفردات للراغب ص305.

[18] وقد نص علي أنها تضمنت شهادة إلهية بالطهارة أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطابه لأبي بکر في أمر فدک فراجع: علل الشرايع ج1 ص191 والاحتجاج للطبرسي ج1 ص123 وتفسير القمي ج2 ص156 و157.

[19] ستأتي مصادر هذه الحديث في أواخر هذا الکتاب إن شاء الله تعالي.

[20] راجع الصحيفة السجادية الدعاء رقم47.

[21] راجع: آية التطهير في أحاديث الفريقين، المجلد الأول والثاني.

[22] راجع نص عبارة السمهودي في ينابيع المودة ص109.

[23] راجع في کون الإرادة تکوينية، وغير ذلک من خصوصيات ذکرناها: متشابه القرآن ومختلفه ج2 ص52 والتبيان ج8 ص308 ومجمع البيان ج8 ص357 والبحار ج35 ص233 وتأويل الآيات الظاهرة ج2 ص456 والأصول العامة للفقه المقارن ص149 و150.

[24] قد أوضحنا في کتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلي الله عليه وآله)، بعد الحديث عن غزوة بدر: أن العصمة عن السهو والخطأ والنسيان اختيارية أيضاً، فضلاً عن العصمة عن الذنوب والقبائح.

[25] سورة محمد (صلي الله عليه وآله)، الآية /17.

[26] سورة العنکبوت، الآية69.

[27] سورة الکهف الآية49.

[28] سورة الأنعام الآية151.

[29] سورة الإسراء الآية23.

[30] سورة الواقعة، آية77 / 79.