بازگشت

والصيام تثبيتا للاخلاص


وبعد هذا البيان الذي تصوّر الزهراء (عليها السلام) فيه فلسفة الزّکاة، تکشف لنا فلسفة الصّيام الذي يعتبر لبنةً في البناء التشريعيّ الإسلامي الضّخم فتقول: «والصّيامَ تثبيتاً للإخلاص».

فترسم أمامَ الأجيال الإسلامية الرّائدة هذه الحقيقة الناصعة التي أراد لها الله سبحانه أن تتحقّق بفضل فريضة الصّيام ـ صيام شهر رمضان المبارک.

والصّوم الذي فرض الإسلام طبيعته وحدّد إطاره: هو إقلاع عن المتطلّبات الجسمية: من أکل وشرب وجماع، وفيه تتحقّق عمليّة قهر أعنف الغرائز في کيان الإنسان، فتقهر غريزة المعدة التي تتطلّب الإشباع الدّائم، والغريزة الجنسيّة التي تتطلّب سدّ حاجتها بإلحاح متواصل. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، وإنّما يتعدّاه إلي صوم الجوارح، فللعين صومٌ عن رؤية المحرمّات، وللأُذن صومٌ عن سماع المحظورات، وللّسان صوم عن قول المنکرات، ولليد والرّجل کذلک صومٌ عن الإعتداء أو السّرقة أو السّير في درب لا يقرُّه حکم الله تعالي.

وهذه الأُمور الأخيرة وإن لم تکن مباحةً في غير شهر رمضان، إلا أنّ شهر الصّوم قد أُعطي تمييزاً عن غيره من سائر الأيام، فربّما قد تحدث هذه الأمور لدي البعض من النّاس، ولکنّها لا تضرُّ بصلاة أو زکاة أو نحوها، إلا الصّيام فإنّ وجود مثل هذه المنکرات يخرج الإنسان عن کونه صائماً.

وثّمة نقطة أُخري تلوح لنا کشعاع ينبثق من فريضة الصّيام، هي: أنّ المسلم الذي استطاع أن يکبت أشدّ غرائزه إلحاحاً وأعظمها خطراً فانتصر عليها هازئاً


بالمادّة وأوضارها، إنّ إنساناً هذا شأنه سيملک من الطّاقات ما يجعله أقدر علي مواجهة طواغيت الارض وقلع معالمهم في حياته وواقعه، بل إنّ إنساناً قهر نفسه ومتطلّبات جسده، هو أقدر علي أن ينتصر لمبدئه الذي استجاب هو لندائه فمنع نفسه عن لذاذاتها ومشتهياتها ليدکّ صروح أعدائه، وإن ادلهم الخطب وازدحم الدّرب بالمخاطر.

يمتنع المرء عن الطّعام والشّراب، وهو قادر علي تناولها بعيداً عن أعين الناس في خلواته في وحدته، ولکنّه يقهر نفسه ولذاذاته لأنّه يستشعر بتقوي الله فاطر الأرض والسّماء، وحينئذ يبرهن علي فاعليّة إيمانه وعلي مدي إخلاصه لله سبحانه.

أجل إنّ في الصوم تتحقق أبعاد الإخلاص لله سبحانه فتتجسّد واقعاً ملموساً لأنّ الصوم لا يتطرّق إليه الرّياء [1] لأنّه ترک لأعز شيء في الحياة هو الطعام هو اللذة المطلقة هو متطلّبات الجسم.

والصوم ـ بعد ذلک ـ دورة تربوية يتلقّي الإنسان فيها مختلف الدُّروس الجديدة، فتخلق لديه عاداتٍ جديدة حتّي المعدة نفسها تعتاد علي التّقسيم الجديد في وجبات الطّعام، فکيف بالسلوک؟

إنّ إنساناً اعتاد ترک الکذب والغيبة والنّميمة، والنّظر المحرّم والسخرية لمدة شهر واحد، أصبح يملک من القدرة علي الإستمرارية في هذا السلوک الإسلامي زمناً. وهو شهرٌ في کلّ سنة ليس بالأمر الهيّن، إنّه يؤلّف نسبة مئوية جدُّ کبيرة من العمر يعيشها الإنسان في کنف الإستقامة وفي رحاب مدرسة إسلامية تصهر السُّلوک المعوج وتبيد جراثيمه. والصوم حين يمتلک هذه المزايا التي تنعکس إلي شدّ العبد بربه شداً وثيقاً، هو الذي أملي علي الزّهراء (عليها السلام) ـ وهي خرّيجة مدرسة الوحي ـ أن تعلن عن کون الصّيام تثبيتاً للإخلاص، فهو تثبيت لإخلاص الإنسان لربّه بعد استجابته لندائه، وترکه لکلّ لذاذاته تقرُّباً له وانقياداً لتلقيناته المبارکة، وعلي هذا التقدير يصبح الصوم اختباراً لدي استجابة المرء لأوامر ربه الکبير المتعال، وحين يستجيب المرء لذلک فقد حاز التثبيت لإخلاصه، وربح بعد ذلک مرضاته تعالي.


پاورقي

[1] المجالس السنية ج 5 ـ محسن العاملي.