بازگشت

والصلاة تنزيها لكم عن الكبر


فالصّلاة في منطق الزّهراء (عليها السلام) رفع للإنسان من حضيض التکبُّر إلي مستوي التّواضع، وهي ـ حين تعلن هذه الميزة التي اتّسمت بها الصّلاة ـ فإنّما تجسّد لنا واقع الصّلاة وقيمتها علي الصّعيد العبادي والإجتماعي، فالصّلاة ابتداءً صلة روحية بين الإنسان وخالقه، تتّخذ طابعاً خاصّاً من الدُّعاء والتجرُّد، ولوناً متميزاً من السُّلوک، فحين يقف المرء أمام خالقه الکبير يعلن اعترافه بربوبيّته وحاکميّته المطلقة. وبعد هذا الإعتراف يعلن مطالبه من ربه، ممثلة بطلب عونه: «إيّاک نعبد وإيّاک نستعين».

والإعتراف بالعبودية لله سبحانه وتعالي ـ يرسم للمسلم الواقعي صورةَ حياة مثاليّة متعددة الجوانب، مطبوعة بطابع الخضوع المطلق للعزيز الحکيم، فهي ليست اعترافاً بالله کخالق للکون والحياة ـ فحسب ـ وإنّما هي عمليّة يعلن الإنسان فيها أنّ الوجود کلّه لله سبحانه. وأنّ الحاکميّة المطلقة في خلقه له وحده، فلا مشرّع لهذا الإنسان غير الله سبحانه، فهو وحده الذي يعلم ما يصلحه وما يفسده وما يرفعه وما يضعه.

وبعد هذا الإعتراف بالله سبحانه وصفاته المقدّسة، يقف المرء أمام ربِّه، وبهذا اليقين المطلق ليسأله العونَ والهداية، وهذه العملية تتکرر خمس مرات في کلّ يوم لتکون مصدراً لتربية النّفس والوجدان علي الخضوع لله سبحانه، الخضوع


المستمر، ولتطبع حياة الإنسان کلّها بطابع هذا الخضوع. ومن ثم فإنّ تکرار هذه العملية يشکّل مناخاً صالحاً لصقل نفسيّة المسلم ومشاعره صقلاً ينسجم وأوامر الله ونواهيه لينطلق المسلم بعدها، وهو أکثر قدرة علي تطبيق منهج السّماء وحمله والتبشير به.

وقد رسم القرآن الکريم هذه الحقيقة حين أعلن: «إنّ الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنکر».

وهنا تتجلّي الحقيقة التي تجعل من الصّلاة مفتاحاً لخلق لون خاص من السُّلوک بعيد عن المتاهات والإنحرافات والطّيش والضياع کما تخلق مناعةً طبيعية لمواجهة جراثيم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

وبعد اتّضاح قيمة الصّلاة الکبري في خلق الشخصيّة الإسلامية، نقف علي الحقيقة الکبري التي رسمتها الزهراء (عليه السلام) أمام الأجيال الإسلامية المتعاقبة حيث جعلت الصّلاة الفريضة الأُولي التي تعقب الإيمان بالله سبحانه في برمجتها لمعالم الرّسالة الإسلامية العظيمة.

وينکش لنا السُّر ـ بعد ذلک ـ الذي جعل الزهراء (عليها السلام) تعتبر الصّلاة عمليّة تهذيب من الکبر والخيلاء، ولأنّ المرء يشعر في قرارة نفسه أنّه وکلّ موجود في هذا الکون البديع يقفون علي صعيد العبوديّة المطلقة لله ـ وحده ـ.

والإنسان ـ في الوقت الذي يستشعر العبودية لله وحده في نفسه ـ يحسُّ بالتّحرُّر المطلق من کلّ عبوديّة لغير الله تعالي، فالإنسان وسائر أبناء جنسه يعيشون في إطار يحمل منتهي العبوديّة لله الکبير المتعال، وفي الوقت ذاته يعيشون علي صعيد واحد من الکرامة والسؤدد، فلا بدّ ـ إذن ـ أن تلغي کلُّ معالم الخيلاء والتکبُّر من المجتمع الذي يعيش في إطار الرسالة الإسلامية الکريمة، وعمليّة الإلغاء لصفة التکبُّر في نفسيات الأفراد بعضهم علي البعض الآخر، لا تتمّ إلا عن طريق الشعور بالخضوع لله وحده، وهذا الخضوع يتجسّد سلوکاً ثابتاً في نطاق الصّلاة التي رسم الإسلام حدودها، وبيّن معالمها وإطارها، ولهذا السّر ـ عينه ـ تنطلق الزّهراء (عليها السلام) لتؤکّد للأُمّة بامتدادها التأريخي: أنّ الصّلاة تنزّه الفرد والمجتمع من أدواء الخيلاء والغرور والاحتيال، انطلاقاً مما تبثُّه الصّلاة من إشعاعات روحيّة واجتماعية في نفسيّة الإنسان المسلم ومجتمعه.