بازگشت

مقدمة


الحمد لله رب العالمين.. وصلي الله علي محمد وآله المنتجبين المهديين.

تُعد القصيدة الشعرية قراءة ناضجة لفترة تاريخية معينة، واستقصاءً رشيداً لملامح تلک الفترة ومعالمها، ولعل مقطوعة أدبية واحدة تُغني عن دراسة تاريخية مضنية، تدخل في حيثياتها نزعةٌ غير رشيده، أو رشيدة إلا انها حذرة تخفي من ورائها معالم قضية سعي الکاتب إلي تجنبها حذراً، أو إخفائها طمعاً.

والقصيدة الشعرية فضلا عن ترسيم ملامح فترة زمنية، فهي تدافعات هواجس تزدحم في صدر الشاعر ليخرجها مقطوعة أدبية تُعبّر عن طموحات تلک الفترة وآلامها.. أي أن القصيدة الشعرية هي تسجيلٌ لمشاهد حسية من محنة سياسية مرتجلة، أو عبثية سلطوية مقيتة حلت في الأمة وأسست منهجة حکم زحفت علي الأمة لتستوعب کل فتراتها الزمنية، إذن فالقصيدة الشعرية مشاهدات واعية لفترة زمنية معينة کما انها قراءة ملحمية واعية يتجاوز بها الشاعر حدود المحذور، ويخترق من خلالها


حواجز الممنوع، لذا فهي تخبو عند أزمات سياسية معينة، وتتوهج عند انفراج سياسي معين، ومن هنا ظهرت أدبيات هذه الأزمات وأطلق عليها البعض "بالمکتمات الأدبية"، أي القصائد التي قيلت مکتومة الانشاء، مکتومة العنوان..

کانت قصيدة أعشي همدان [1] عينة جيدة


للمکتّمات الأدبية، وقد روتها المشاريع التاريخية تحت عنوان "المکتمات" فقد جاءت عبارة الطبري عند روايته لهذه المقطوعة بقوله: وکان مما قيل من الشعر في ذلک [أي في وثبة التوابيين وجهادهم ضد الحکم الأموي] قول أعشي همدان، وهي احدي المکتمات کنّ يکتمن في ذلک الزمان، ثم روي قصيدته کاملة [2] وتبعه علي


ذلک ابن الأثير في کامله بقوله عند روايته لقصيدة أعشي همدان حيث قال: قال أعشي همدان في ذلک وهي مما يکتم ذلک الزمان [3] ثم روي قصيدته کاملة کذلک.

إذن فالظرف السياسي قد أسس لوناً أدبياً خاصاً سمي "بالمکتمات"، کانت تعبيراً عن نفس مکتوم يُنفّس الشاعر به عن هواجسه واحساساته، ثم هو خلاصة لتاريخ مقهور وحق ممتهن. وإذا کانت المکتمات الأدبية قد اختفت لفترة سياسية معينه ثم أظهرت المشاريع التاريخية وسجّلتها الجهود الثقافية، فان "مکتّمات أدبية" تعاني من قهر ثقافي لا زال متسلطاً علي المشروع الأدبي، يکتم أنفاسه أو يخفيه تحت معذّرات تبريرية، کالحفاظ علي وحدة الأمة وعدم الاثارة لتاريخ انتهي، لا حاجة لنا في اعادته، إلي غير ذلک من التبريرات الانهزامية التي تُلغي تراثاً أدبياً وحقائق تاريخية، هکذا هي قصائد هذا الکتاب مکتّمات دائمة لم يُرفع عنها المحذور، ولا تتمتع بحقها المسموع، تلغيها الجهود الثقافية، وتکتمها المشاريع التاريخية، فثقافة المأساة الفاطمية لا تزال تدخل تحت عناوين الحظر الأدبي الذي من خلاله أسست بعض المدارس الثقافية محاولات اخفاء تقليدية کانت جهودها منصبّة لمسح القضية التاريخية بحجة الحفاظ علي وحدة الأمة وسلامتها من الانشقاق، علماً أن محاولات الاخفاء هذه هي أولي مراحل التفرقةِ والانشقاق لدي الأمة، أي تعيش الأمة بين الواقعية التاريخية وبين التمويه القصصي الذي يلتف علي الحقيقة فتضطرب عندها الرؤية وتختلف من


خلالها الافهام، فتنشأ بسببها مواقف الاختلاف و الفوضي.

هذه هي مکتمات هذا الکتاب، تحاول الخروج عن سلطنة المشروع الثقافي الذي صنّفها في عداد الممنوع، والانفلات من قبضة التقليديات المفروضة علي القضية التاريخية سواء کانت علي أساس سردي، أو علي شکل مقطوعة شعرية تخرج من بين مطاوي کتاب انفلت عن تقليديات الممنوع، أو مشاريع ثقافية جزئية إلاّ انها متناثرة لم تستقل بعنوان بل جاءت کترتيبات إندماجية تسترقُ الفُرَصَ وتتحين المواقف.

لذا بدأت قصائد الکتاب من نصف القرن الهجري الثاني حيث استطاعت المشاريع الأدبية الشيعية أن تنفتح علي الاعلان عن مظلومية آل البيت (عليهم السلام) بحذر شديد، ظهرت ملامحه علي نفس المقطوعة الأدبية التي تجرأت علي هذا النمط الثقافي ـ الاعلامي، لذا فان فترة القرن الهجري الأول قد حُجبت عن المشارکة في هذا المشروع الأدبي مع ما تملک من تراث أدبي فاطمي مقهور بين الاخفاء والتعتيم حتي أن المتتبع لأدبيات هذه الفترة لم يعثر من بعيد أو قريب علي أدبيات فاطمية تحکي مظلومية الزهراء (عليها السلام)ومأساتها مع أن هذه الفترة لعلها أثري الفترات الأدبية التي أظهرت مظلومية الزهراء (عليها السلام) وذلک لشواهد منها:

أولا: أن المجتمع العربي مجتمع "تسجيلي" يهتم بأرشفة المواقف التاريخية في محاولات أدبية تتعدها القصيدة الشعرية، وتُظهرها أدبيات المشاهد الذي کان يُسجل الموقف في مخيلته الأدبية الشعرية.

ثانياً: کانت التکتلات السياسية عبارة عن طبقات شعرية تترصد أية


حادثة تتحفز من خلالها قريحتها الشعرية، وتتفجر عندها موهبتها.

ثالثاً: کان الاعلان عن الموقف السياسي المعارض أو المؤيد من خلال المشروع الأدبي الذي يتشکل علي أساس المقطوعة الشعرية المتکونة من البيت الواحد إلي القصيدة حتي الملحمة الشعرية الکاملة.

وإذا کان الأمر کذلک فلا نعقل فترة سياسية مهمة مع ما صاحبتها من وقائع دينية ـ إجتماعية حساسة دون أن تُسجل مشاريعها الأدبية موقفها الواضح من الرفض أو التأييد.

إن مشاريع المکتّمات الأدبية شواهد تاريخية علي خنق أي مشروع ثقافي رافض لتوجهات السلطة، أو معارض للانفلاتية الشرعية أو الخروقات التي يرتکبها النظام، ففي أي رحاب حر يمکن التعبير عن المعارضة السياسية إذن؟

وفي أي رحاب ثقافي مخنوق يمکن للمشروع الأدبي أن يتحرک من خلاله بحرية تعبيرية کاملة؟ هذا ما سبّبَ في حذف تراث شعري حاول اظهار خروقات السلطة الحاکمة وارتکابها لأفظع مظلومية جرت علي آل بيت النبي الاطهار (عليهم السلام) التي کانت أهم عناوينها مظلومية الزهراء (عليها السلام)، حتي غدت مشاريع الأدب الفاطمي من أهم مکتّمات تلک الفترة التي تورّط حتي من حاول اظهار المکتمات الأدبية، في اخفائها، فالطبري ومثله ابن الأثير وغيرهم الذين حاولوا اظهار هذه المکتّمات وتسجيلها في مشاريعهم الأدبية لم يجرؤا علي رفع الحظر المضروب علي المشروع الأدبي الفاطمي الذي حدد معالم تلک الفترة السياسية ونقل صورة المأساة.


إن کتابنا الذي برّمج أعماله من القرن الهجري الثاني دون إدخال القرن الهجري الأول في مشروعه دليل آخر علي مکتّمات تلک الفترة القاسية وما تعرضت له من محاولات اتلافية فنية دقيقة حاولت الغاء فترة ثقافية وشطب جهد أدبي کبير.

هذا ولعل الظرف السياسي المتراخي هو الذي أباح للسيد الحميري أن ينشر مکتماته حتي تبعه أهل عصره فأذاعوا منها طرفاً، وأشاروا إليها نتفاً.

فکانت القصيدة الحميرية فاتحة عهد لأن تتنفس مکتمات الأدب العربي لتحال إلي اطروحات فکرية فضلا عن کونها اطروحات سياسية متحدية.

هذه هي الأسباب التي دعت أن يتخطي الکتاب من القرن الأول الهجري إلي النصف الثاني من القرن الثاني الهجري الذي تفجرت فيه المکتمات الأدبية إلي صيحات ثورية حقيقية.

کانت مسألة الاسقاط التي تعرضت اليها السيدة فاطمة الزهراء (عليه السلام)، من أهم ملامح تلک الفترة السياسية الواثبة علي حقوق آل البيت (عليهم السلام)، حيث أظهرت خطورة الموقف السياسي الحاد الذي سحق من خلاله کل الاعراف الدينية والاجتماعية مدي استعداد القوي السياسية إلي قلب المعادلات والثوابت، لذا جاءت مسألة الاسقاط، قراءة واعيةً لفترة سياسية عارمة بکل توجهاتها السلطوية المقيتة، فلم تقف في طريقها أية مرتکزات دينية أو أعراف اجتماعية، فکان الکتاب مشروع أدبي أظهر معالم هذه الفاجعة المؤلمة، وامتد هذا المشروع ليشمل حتي القصائد التي تحدّث عن مأساة السيدة الزهراء (عليها السلام) دون التصريح بمسألة الأسقاط لأسباب سياسية صرفة.


استطاع هذا المشروع أن يؤسس غرضاً شعرياً مستقلا، اطلق عليه "بالأدب المحسني" الذي من خلاله أمکن تحديد ملامح هذا الأدب ومعالمه.

ان استقلالية الأدب المحسني بشخصيته المستقلة، أرفد الدائرة الأدبية بالجهود النهضوية الذي ينتمي إليها الأدب الشيعي يوم أسس الأدب الحسيني فصارت إليه شخصيته المستقلة ومعالمه المعروفة، ولعل أهم ما حققه هذا المشروع هو أرشفة الأدب المحسني وحفظه في مشروع خاص يمکن أن يکون فاتحة عهد جديد لمشاريع أدبية محسنية جديدة تتبناها جهود تحقيقية أخري لتسد ثغرات هذا التأسيس وتزيد من دراسته دراسة تحقيقية تاريخية.

ان محاولتنا هذه اجابة لکل تخرصات المشاريع التبريرية التي حاولت الشطب علي فترة تاريخية مقدسة من التراث الإمامي، وتفنيد لکل التخرصات المتدافعة بين واقعية الحدث وبين رغبة التثقيف الساذج، فهو إذن، قراءة واعية لفترة زمنية أخفتها المحاولات التثقيفية المضادة، التي لم تستطع الصمود أمام واقعية الاحداث الإسلامية الجلية.

قم المقدسة

في الأول من ربيع الأول 1418 هـ

محمد علي السيد يحيي الحلو



پاورقي

[1] قال أعشي همدان في قصيدة له يمدحُ التوابيين ووثبتهم ضد الحکم الأموي المنحرف، فمن قصيدته التي تسمي "بالمکتّمات".



فاني وإن لم أنسهُنَّ لذاکرٌ

رزيئةَ مخبات کريمِ المناصبِ



توسل بالتقوي إلي الله صادقاً

وتقوي الإله خير تکساب کاسبِ



وخلي عن الدنيا فلم يلتبس بها

وتاب إلي الله الرفيع المراتبِ



تخلي عن الدنيا وقال اطرحتُها

فلستُ اليها ما حييتُ بآيب



وما أنا فيما يُکبرُ الناس فقدهُ

ويسعي له الساعون فيها براغب



فوجههُ نحوَ الثويةِ سائراً

إلي ابن زياد في الجموع الکباکب



بقوم همُ أهلُ التقية والنُهي

مصاليتُ أنجاد سراةُ مناجبِ



مضوا تارکي رأي ابن طلحة حسبَهُ

ولم يستجيبوا للأمير المخاطبِ



فساروا وهم من بين مُلتمسِ التُقي

وآخرَ مما جرَّ بالأمس تائب



فلاقوا بعين الوردة الجيش فاصلا

اليهم فحُّسوهم بييض قواضبِ



إلي أن يقول:



فان يقتلوا فالقتلُ اکرمُ ميتة

وکل فتيً يوماً لا حدي الشواعبِ



وما قُتِلوا حتي أثاروا عصابةً

مُحِلين ثوراً کالليوث الضواربِ (تاريخ الطبري 4: 274.).

[2] انظر تاريخ الطبري 4: 472 مطبعة الاستقامة بالقاهرة 1939 م.

[3] راجع ابن الأثير في الکامل 3: 345 دار الکتاب العربي بيروت ط5 1985 م.