بازگشت

فاطمة الزهراء تندب أباها


لــم تکن علاقة فاطمة بأبيها کأيَّة بنت بوالدها، بل إنها أضحت امتداداً لجميع أبعاد شخصية رسول اللــه، أولم يقل عنها النبي (ص) وهو آخذ بيدها:

(من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد، وهي بضعة مني، وهي قلبي الذي بين جنبيّ فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذي اللـه) [1] .

أولم يحدثنا علي عليه السلام عن فاطمة عليها السلام انها قالت:

(قال لي رسول اللـه: يا فاطمة من صلَّي عليک غفر اللـه له وألحقه بي حيث کنت من الجنة) [2] .

وحب فاطمة لأبيها کان أسمي من حب النسب. بل کان حبّاً إلهيّاً نابعاً من معرفتها بمقام الرسول من اللـه، وعظمته عند ربه.

وحين افتقدت فاطمة رسول اللـه أحست بخطورة الموقف کما لم يشعر بذلک أحد، وشعرت وکأنَّ جبال الأرض تداکَّت علي رأسها الشريف.

وبالرغم من أن الحزن قد دب إلي کل قلب مؤمن بفقد الرسول، وإلي قلب الأمة، وضمير الحياة، إلاّ أن شلال الحزن صب في فؤاد ابنته ووريثته الوحيدة، وقلبه المنفصل!!

ولقد أذهل المصاب الجلل الکثير عن التفکر الجدِّي في إملاء الفراغ الکبير بإحياء ذکري الرسول.

وکان علي فاطمة أن تملأ هذا الفراغ بذکر رسول اللـه، وبيان عظمته، والصلاة عليه، وإعلان شديد الحزن عليه. و. و.

إن فاطمة کانت تتعبدلله بالکباء علي فقد رسول اللـه (صلي اللـه عليه وآله). لأن ذلک کان يحيي ذکر الرسول.

وقد بلغ بکاء الزهراء علي والدها حداً عُدّت من البکائين الخمسة إلي جنب آدم ويعقوب ويوسف عليهم السلام، ثم علي بن الحسين (ع) [3] .

وجاء في حديث مروي عن فضة التي لازمت خدمة فاطمة الزهراء، قصة حزن فاطمة، الحديث يقول:

ولم يکن في أهل الأرض والأصحاب، والأقرباء والأحباب، أشدَّ حزناً وأعظم بکاءً وانتحاباً (علي رسول اللـه) من مولاتي فاطمة الزهراء (ع)، وکان حزنها يتجدَّد ويزيد، وبکاؤها يشتدُّ.

فجلست سبعة أيام لا يهدأ لها أنين، ولا يسکن منها الحنين، کلُّ يوم جاء کان بکاؤها أکثر من اليوم الأوَّل، فلما کان في اليوم الثامن أبدت ما کتمت من الحزن، فلم تطق صباراً إذ خرجت وصرخت، فکأنها من فم رسول اللـه صلي اللـه عليه وآله تنطق، فتبادرت النسوان، وخرجت الولائد والولدان، وضجَّ الناس بالبکاء والنحيب وجاء الناس من کلِّ مکان، وأطفئت المصابيح لکيلا تتبيّن صفحات النساء وخُيِّل إلي النسوان أنّ رسول اللـه صلي اللـه عليه وآله قد قام من قبه، وصارت الناس في دهشة وحيرة لما قد رهقهم، وهي (ع) تنادي وتندب أباها: وا أبتاه، وا صفيّاه، وا محمّداه! وا أبا القاسماه، وا ربيع الارامل واليتامي، من للقبلة والمصلَّي، ومن لابنتک الوالهة الثکلي.

ثم أقبلت تعثر في أذيالها، وهي لا تبصر شيئاً من عبرتها، ومن تواتر دمعتها حتي دنت من قبر أبيها محمد صلي الله عليه وآله، فلما نظرت إلي الحجرة وقع طرفها علي المأذنة فقصرت خطاها، ودام نحيبها وبکاها، إلي أن أغمي عليها، فتبادرت النسوان إليها فنضحن الماء عليها وعلي صدرها وجبينها حتي أفاقت، فلما أفاقت من غشيتها قامت وهي تقول:

(رفعت قوتي، وخانني جلدي، وشمت بي عدوّي، والکمد قاتلي، يا أبتاه بقيت والهة وحيدة، وحيرانه فريدة، فقد انْخَمَد صوتي، وانْقَطَع ظهري، وتنغص عيشي، وتکدَّر دهري، فما أجد يا ابتاه بعدک أنيساً لوحشتي، ولا راداً لدمعتي، ولا معيناً لضعفي، فقد فني بعدک محکم التنزيل، ومهبط جبرائيل، ومحلُّ ميکائيل. انقلبت بعدک يــا أبتاه الأسباب، وتغلّقت دوني الأبواب، فأنا للدُّنيا بعدک قاليـة، وعليک ما تردَّدت أنفاسي باکية، لا ينفد شوقي إليک، ولا حزني عليک).

ثم نادت: يا أبتاه والبّاه، ثم قالت:


إن حزنـي عليــک حـزن جـديـدُ

وفؤادي و اللـه صبُّ عــنــيــدُ


کـل يــوم يــزيـد فيــه شجـونـي

واکتئابــي عليــک ليــس يبيـدُ


جـلَّ خطبــي فبـان عنّي عزائـي

فبکائي فــي کـلَّ وقــت جديـدُ


إن قلبـاً عليــک يألــف صـبراً

أو عــزاءً، فـإنه لَجَليدُ


ثم نادت: يا أبتاه، انقطعت بک الدنيــا بأنوارها، وزوت زهرتها وکانت ببهجتک زاهرة، فقد اسودَّ نهارهـا، فصار يحکي حنادسها ويابسها، يا أبتاه لازلت آسفة عليک إلي التلاق، يا ابتاه زال غمضي منذ حقَّ الفراق، يا أبتاه من للأرامل والمساکين، ومن للأمة إلي يوم الدين، يا أبتاه أمسينا بعدک من المستضعفيـن، يا ابتاه أصبحت الناس عنّا معرضين، ولقد کنا بک معظّمين في الناس غير مستضعفين، فأيُّ دمعةٍ لفراقک لا تنهمل، وأيُّ حزن بعدک عليک لا يتَّصل، وأيُّ جفن بعدک بالنوم يکتحل، وأنت ربيع الدِّين، ونور النبيين، فکيف للجبال لا تمور، وللبحار بعدک لاتغور، والأرض کيف لم تتزلزل.

رُميتُ يا أبتاه بالخطب الجليل، ولم تکن الرّزية بالقليل، وطرفت يا أبتاه بالمصاب العظيم، وبالفادح المهول.

بکتک يا أبتاه الأملاک، ووقفت الأفلاک، فمنبرک بعدک مستوحش، ومحرابک خال من مناجاتک، وقبرک فرح بمواراتک، والجنّة مشتاقة إليک وإلي دعائک وصلاتک.

يا أبتاه ما أعظم ظلمة مجالسک، فوا أسفاه عليک إلي أن أقدم عاجلاً عليک، واُثکْلَ أبي الحسن المؤتمن أبي ولديک، الحسن والحسين، وأخيک ووليّک وحبيبک ومن ربّيته صغيراً، وواخيته کبيراً، وأحلي أحبابک وأصحابک إليک من کان منهم سابقاً ومهاجراً وناصراً، والثکل شاملنا، والبکاء قاتلنا، والأسي لازمنا.

ثم زفرت زفرة وأنّت أنّه کادت روحها أن تخرج ثمَّ قالت:


قـلَّ صبـري وبـان عنـي عزائي

بعــد فقـدي لخاتــم الأنبياء


عيــن يا عيــن فاسکبـي الدمع سحـّاً

ويـک لا تبخلــي بفيــض الدمـاء


يـا رســول الإلــه يا خيــرة اللــــهِ

وکهـف الأيتام والضعفاء


قد بکتــک الجبال والوحشُ جمعـاً

فبکــتِ الأرض مـن بکاء السمـاء


وبکاء الحجـون والرکـن والـمَشْعَرِ

يا سيــدي مـع البطحـاء


وبکاک المحـراب والدَّرس للقـرآنٍ

فــي الصبح معلناً والمساء


وبکــاک الإسلام إذ صــار فـي النـاسِ

غريبــاً مــن سائر الغرباء


لو تـري المنبـر الــذي کنت تعـلـوهُ

علاه الظــلام بعد الضياء


يا إلهـي عجّل وفاتي سريعاً

فلقد نقَّـص الحياة بکــائــي


قالت: ثمَّ رجعت إلي منزلها وأخذت بالبکاء والعويل ليلها ونهارها، وهي لاترقأ دمعتها، ولا تهدأ زفرتهــا.

واجتمع شيوخ أهل المدينة وأقبلوا إلي أمير المؤمنين علي (ع) فقالوا له: يا أبا الحسن إنَّ فاطمة (ع) تبکي الليل والنهار، فلا أحد منّا يتهنأ بالنوم في الليل علي فُرشنا، ولا بالنهار لنا قرار علي أشغالنا وطلب معايشنا. وإنّا نخبرک أن تسألها إمّا أن تبکي ليلاً او نهاراً، فقال (ع): حُبّاً وکرامةً.

فأقبل أمير المؤمنين (ع) حتي دخل علي فاطمة (ع) وهي لاتفيق من البکاء، ولا ينفع فيها العزاء. فلما رأته سکنت هنيئة له، فقال لها: يا بنت رسول اللـه (ص)، إنَّ شيوخ المدينة يسألوني أن أسألک إما أن تبکين أباک ليلاً وإمّا نهاراً.

فقالت: يا أبا الحسن ما أقلَّ مکثي بينهم، وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم، فواللـه لا أسکت ليلاً ولا نهاراً أو ألحق بأبي رسول اللـه صلي اللـه عليه وآله. فقال لها علي عليه السلام: افعلي يا بنت رسول اللـه ما بدا لک.

ثمَّ إنه بني لها بيتاً في البقيع نازحاً عن المدينة يسمي بيت الأحزان، وکانت إذا أصبحت قدَّمت الحسن والحسين (ع) أمامها، وخرجت إلي البقيع باکية. [4] .

وکانت فاطمة الزهراء تستغل بعض المناسبات لتعريف الناس برسول اللـه، وتجديد ذکراه العطرة. فلقد روي [أنّه] لما قبض النبي (ص) امتنع بلال من الأذان، قال: لا أؤذن لأحد بعد رسول اللـه (ص)، وإن فاطمة (ع) قالت ذات يوم: إني أشتهي أن أسمع صوت مؤذِّن أبي (ص) بالأذان، فبلغ ذلک بلالاً، فأخذ في الأذان، فلمّا قال: اللـه أکبر اللـه أکبر، ذکرت أباها وأيامه، فلم تتمالک من البکاء، فلما بلغ إلي قوله: اشهد أن محمداً رسول اللـه شهقت فاطمة (ع) وسقطت لوجهها وغشي عليها، فقال الناس لبلال: أمسک يا بلال فقد فارقت أبنة رسول اللـه (ص) الدُّنيا، وظنوا أنها قد ماتت، فقطع أذانه ولم يتمه فأفاقت فاطمة (ع) وسألته أن يتمَّ الأذان، فلم يفعل، وقال لها: يا سيدة النسوان إنّي أخشي عليک ممّا تنزلينه بنفسک إذا سمعت صوتي بالأذان، فأعفته عن ذلک.


پاورقي

[1] بحار الأنوار: ج 43، ص 80.

[2] بحار الأنوار: ج 43، ص 55.

[3] بحار الأنوار: ج 43، ص 155.

[4] بحار الأنوار: ج 43، ص 175 - 177.