بازگشت

في بيت النبي


إنّ رکائز الفرد الروحية والأخلاقية تستند إلي بوادر تربيته وبيئته وبيته الذي نشأ فيه، وکان منبت الصديقة الزهراء «عليها السلام» في أول بيت حمل لواء الإسلام ونشر راية التوحيد ونادي بمکارم الأخلاق، وهو البيت الذي وصفه أمير المؤمنين «عليه السلام» في خطبته القاصعة: «ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله «صلي الله عليه وآله وسلم» وخديجة وأنا ثالثهما، أري نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوة...» [1] .

فعميد البيت هو النبي العربي الخاتم «صلي الله عليه وآله وسلم» أبو القاسم محمد بن عبدالله ابن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، الذي وصفه تعالي بقوله: (وإنک لعلي خلق عظيم) [2] ونعته قومه وهم في غياهب جاهليتهم بالصادق الأمين، واختصه الله تعالي بالوحي والکتاب الکريم، وشرّفه بشرف الرسالة، وشرح صدره بأنوار المحبة واللطف والکرامة.


هو الحبيب الذي تـرجي شفاعتــه

لکلِّ هـول مـن الأهوال مقتـحمِ


دعــا إلي الله فـالمستمسکون بـه

مستمسـکون بحبـلٍ غـير منفصمِ


فــاق النبييــن فــي خَلــْق

وفي خلقولم يدانوه في علمٍ ولا کرمِ





وکلّهم مـن رسـول الله ملتمس

غرفاً من البحر أو رشفاً من الديمِ


فهـو الذي تـمّ معناه وصورته

ثــم اصطفاه حبيباً باريء النسمِ


منزّه عـن شريک فـي محاسنه

فجوهر الحسن فيه غير منقسمِ [3] .


أما سيدة البيت أُمّ الزهراء «عليها السلام» فهي أُمّ المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزي بن قصي جد النبي «صلي الله عليه وآله وسلم»، أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهن شرفاً، وکانت تدعي في الجاهلية الطاهرة [4] لشرفها وعفّتها، وقد نشأت في بيت معروف بالمکانة واليسار والنفوذ والشرف في قريش.

کان جدها أسد بن عبد العزّي واحداً من أعضاء حلف الفضول ومؤسسيه والدعاة إليه، وهو الحلف الذي بموجبه تعاقدت قبائل من قريش وتعاهدت علي أن لا يجدوا بمکة مظلوماً من أهلها أو غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلاّ نصروه، وکانوا علي من ظلمه حتي تردّ مظلمته، وهو الحلف الذي قال فيه رسول الله «صلي الله عليه وآله وسلم» عليهم السلام «لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما أحبُّ أن لي به حمر النعم، ولو أُدعي به في الإسلام لاَجبت» [5] .

وکان ابن عمّها ورقة بن نوفل بن أسد من الأربعة الذي تنسکوا واعتزلوا عبادة الأوثان، وهجروا قومهم فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم «عليه السلام» [6] .

وقد تزوج الرسول «صلي الله عليه وآله وسلم» خديجة الکبري «عليها السلام» قبل البعثة بنحو خمسة


عشر عاماً، فلمّا بُعِث النبي «صلي الله عليه وآله وسلم» دعاها إلي الإسلام، فکانت أول امرأة آمنت بدعوته، وبذلت کل ما بوسعها من أجل أهدافه المقدسة، فکانت أموال خديجة ثالث أثافي دعوة الإسلام بعد تسديد العناية الإلهية لشخص الرسول «صلي الله عليه وآله وسلم»، وحماية أبي طالب «عليه السلام» عم الرسول «صلي الله عليه وآله وسلم» ونصرته ومؤازرته.

ثم انها قد اجتباها الله تعالي لکرامة لا توصف نالت بها سعادة الأبد، وذلک بأن منّ الله تعالي علي الإسلام بأن حفظ في نسلها ذرية الرسول المصطفي «صلي الله عليه وآله وسلم» فهي أُمّ آل البيت الکبري، الذين کانوا نفحةً من عطر شذاه، وقبساً من سنا نوره، إذ انحصرت في ابنتها الزهراء «عليها السلام» نسبة کل منتسب إلي رسول الله «صلي الله عليه وآله وسلم»، فأعظم بها من مفخرة!

وتوفيت خديجة «عليها السلام» في السنة العاشرة من المبعث الشريف بعد خروج بني هاشم من الشعب [7] ، أي قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين، وذلک بعد أن عاشت مع رسول الله «صلي الله عليه وآله وسلم» نحو ربع قرن کانت فيها أُمّ عياله وربة بيته ومؤازرته علي دعوته، ولم يتزوج رسول الله «صلي الله عليه وآله وسلم» امرأة في حياتها قط إکراماً لها وتعظيماً لشأنها بخلاف ما کان منه «صلي الله عليه وآله وسلم» بعد وفاتها.

وقد جاء في فضلها عنه «صلي الله عليه وآله وسلم» أنّه قال: «سيدات نساء أهل الجنة أربع: مريم بنت عمران، وفاطمة بنت محمد، وخديجة بنت خويلد، وآسية امرأة فرعون» [8] .

ولم ينس ذکرها رسول الله «صلي الله عليه وآله وسلم» حتي في أواخر حياته کما في قول عائشة: کان رسول الله «صلي الله عليه وآله وسلم» لا يکاد يخرج من البيت حتي يذکر خديجة، فيحسن الثناء عليها، فذکرها يوماً من الأيام، فأخذتني الغيرة، فقلت: هل


کانت إلاّ عجوزاً قد أبدلک الله خيراً منها، فغضب حتي اهتزّ مقدم شعره من الغضب، ثم قال: «لا والله ما أبدلني خيراً منها، آمنت بي إذ کفر الناس، وصدّقتني إذ کذّبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولاداً دون غيرها من النساء» قالت عائشة: فقلت في نفسي: لا أذکرها بعدها بسبّة أبداً [9] .

وفي هذا النص دليل واضح علي أفضليتها «عليها السلام» علي سائر أزواج النبي «صلي الله عليه وآله وسلم» وکونها أحبهن إلي قلبه الشريف.

ففي هذا البيت الذي اختاره الله سبحانه مهبطاً للوحي ومقراً للنبوة لتبليغ رسالته والانذار بدعوته، ولدت ونشأت وترعرت الزهراء «عليها السلام» بين أقدس زوجين في ذلک العالم الذي يلفّه الظلام والضلال، فکان البيت بما يحتويه من عميده النبي «صلي الله عليه وآله وسلم» وزوجته خديجة الکبري، وابن عمه الوصي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وابنته الطاهرة الصديقة (سلام الله عليهم أجمعين) هالةً من النور وبيرقاً للهداية، وماهي إلاّ سنين قلائل حتي تبدّدت سحب الضلال بنور الإيمان، وشملت راية التوحيد أمُّ القري وماحولها.

قال الشاعر:


شبت بحجر رسول الله فـاطمة

کما تحــبّ المعالي أن تلاقيها


وفي حمي ربّة العليا خديجة قد

نشت کما الطهر والآداب تشهيها


ونفسها انبثقت من نفس والدها

وأُمّها فهـي تحکيـه ويحکيها [10] .



پاورقي

[1] نهج البلاغة: ضبط صبحي الصالح: 300 الخطبة (192).

[2] سورة القلم: 68: 4.

[3] الأبيات من قصيدة البردة للبوصيري، المتوفي سنة 696، راجع المجموعة النبهانية: النبهاني 4: 5، دار المعرفة.

[4] أُسد الغابة: ابن الأثير 5: 434، دار إحياء التراث العربي.

[5] سيرة ابن هشام 1: 141، مطبعة البابي الحلبي ـ مصر.

[6] سيرة ابن هشام 1: 237.

[7] الإصابة: ابن حجر 4: 283، دار إحياء التراث العربي.

[8] مستدرک الحاکم 3: 185 حيدر آباد ـ الهند. وکنز العمال: المتقي الهندي 12: 144: 34406، مؤسسة الرسالة.

[9] الاستيعاب: ابن عبدالبر 4: 287 بهامش الاصابة. الاصابة 4: 283.

[10] الأبيات من القصيدة العلوية للشاعر عبدالمسيح الأنطاکي: 95 ـ مصر.