بازگشت

و خلاصته


أن النبي والولي يحس أکثر من کل أحد بقيمة وعظمة واتساع النعم التي يفيضها الله عليه.

فلا غرو إذن إذا کان يري نفسه ـ مهما فعل ـ مذنباً، ومقصراً لعدم قيامه بواجب الشکر لذلک المنعم العظيم.. بل هو يبکي.. ويبکي من أجل ذلک، ولا يکف عن بذل الجهد.. وحين يقال:

يا رسول الله ما يبکيک وقد غفر الله لک ما تقدم من ذنبک، وما تأخر؟ نجده يقول: أفلا أکون عبداً شکوراً.

ونوضح ذلک بالمثال، فنقول: إن من يريد تقديم هدية لسلطان أو ملک، فإنه قد لا يجد فيما يقدمه ما يناسب جلال السلطان وأبهة الملک، فيري نفسه مقصراً فيما قدّمه إليه.. بل ومذنباً في حقه.. تماماً کما کان لسان القبّـرة التي أهدت لسليمان جرادة کانت في فيها، وذلک لأن الهدايا علي مقدار مهديها.

وواضح: أن حال المعصوم مع الله تختلف عن حالنا، فهو يعرف الله حق معرفته، ولأجل ذلک فإن عبادته له ليست خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته، بل لأنه يراه أهلاً للعبادة، فهو يعبده عبادة العارفين، والعالمين.. کما أنه يعرف أيضاً أن موقعه يجب أن يکون موقع العبودية التامة، والخالصة، لأنه واقف علي حقيقة ذاته في ضعفه، وفي واقع قدراته، وحقيقة قصوره وحاجته إليه في کل آن، کما هو واضح لا يحتاج إلي مزيد بيان.. ويري نفسه مذنباً في هذا التقصير.. وقد يجر عليه ذلک فقدان لطف الله به، وهتک العصم التي يکون بها قوته وثباته، ثم قطع الرجاء، وحبس الدعاء.. الخ.

ثالثاً: وبتقريب آخر نقول: إن نسيج الأدعية والأذکار حين يراد له أن يکون دعاءً أو ذکراً مرسوماً للبشر کلهم بجميع فئاتهم، ومختلف طبقاتهم ويلائم جميع حالاتهم، وتوجهاتهم، فإنه يکون ـ بما له من المعني ـ بحيث يتسع لتطبيقات عامة ومتنوعة، ويجمعها نظام المعني العام.

ويساعد علي اتساع نطاق تلک التطبيقات، ويزيد في تنوعها مدي المعرفة بمقام الألوهية، ومعرفة أياديه ونعمه وأسرار خلقه وخليقته تبارک وتعالي وما إلي ذلک.. من جهة.. ثم معرفة الإنسان بنفسه، وبموقعه، وحالاته.. و.. من جهة أخري. فبملاحظة هذا وذاک يجد المعصوم نفسه ـ نبياً کان أو إماماً ـ في موقع التقصير، ويستشعر من ثم المزيد من الذل والخشية، والخشوع له تعالي.

فالقاتل والسارق والکذاب حين يستغفر الله ويتوب إليه، فإنما يستغفر ويتوب من هذه الذنوب التي يشعر بلزوم التخلص من تبعاتها، ويري أنها هي التي تحبس الدعاء وتنزل عليه البلاء، وتهتک العصم التي تعصمه، ويعتصم بها، وتوجب حلول النقم به.

أما من ارتکب بعض الذنوب الصغائر، کالنظر إلي الأجنبية، أو انه سلب نملة جلب شعيرة، أو لم يهتم بمؤمن بحسب ما يليق بشأنه.. وما إلي ذلک..

فإنه يستغفر ويتوب من مثل هذه الذنوب أيضاً، ويري أنها هي التي تحبس دعاءه، وتهتک العصم التي تعصمه ويعتصم بها، وتحل النقم به من أجلها.

وهناک نوع آخر من الناس لم يقترف ذنباً صغيراً ولا کبيراً، فإنه حين يقصّر في الخشوع والتذلل أمام الله سبحانه، ولا يجد في نفسه التوجه الکافي إلي الله في دعائه وابتهاله، بل يذهب ذهنه يميناً وشمالاً.. فإنه يجد نفسه في موقع المذنب مع ربه، والعاقّ لسيده، والمستهتر بمولاه. وهذه ذنوب کبيرة بنظره، لا بد له من التوبة والاستغفار منها.. وهي قد توجب عنده هتک العصم التي اعتصم بها، وحلول النقم، وحبس الدعاء، وقطع الرجاء، وما إلي ذلک.

أما حين يبلغ في معرفته بالله سبحانه مقامات سامية، کما هو الحال بالنسبة لأمير المؤمنين عليه السلام، أو بالنسبة لرسول رب العالمين، فإنه لا يجد في شيء مما يقوم به من عبادة ودعاء وابتهال: أنه يليق بمقام العزة الإلهية.

بل هو يعد الالتفات إلي أصل المأکل والمشرب والاقتصار علي مثل هذه الطاعات تقصيراً خطيراً يحتاج إلي الخروج عنه إلي ما هو أسمي وأسني، وأوفق بجلال وعظمة الله سبحانه، وبنعمه وبفضله وإحسانه وکرمه..

وهذا التقصير ـ بنظره ـ لا بد أن ينتهي إلي الحرمان من النعم الجلّي، التي يترصّدها، حينما لا يصل إلي درجات تؤهله لتقبلها، وکذلک الحال بالنسبة إلي نفوذ دعائه وحجبه عن أن يستنـزل العطايا الإلهية الکبري، أو يرتفع به إلي مقامات سامية يطمع بها، ويطمح إليها.. کما أن النبي والوصي قد يجد نفسه غير متمکن من العصم التي يريد لها أن تکون منطلقاً قوياً يدفع به إلي ما هو أعلي وأسمي، وأجل.

وبعبارة أخري: إنهم يرون: أن عملهم هو من القلّة والقصور بحيث يوجب حجب الدعاء، ووقوعهم بالبلاء، ومن حيث أنه غير قادر علي النهوض بهم بصورة أسرع وأتم ليفتح لهم تلک الآفاق التي يطمحون لارتيادها، ما دام أن شوقهم إلي لقاء الله يدعوهم إلي الطموح إلي طي تلک المنازل بأسرع مما يمکن تصوره.

فما يستغفر منه الأنبياء والأوصياء، وما يعتبرونه ذنباً وجرماً.. إنما هو في دائرة مراتب القرب والرضا وتجليات الألطاف الإلهية.. وکل مرتبة تالية تکون کمالاً بالنسبة لما سبقها، وفي هذه الدائرة بالذات يکون تغيير النعم، ونزول النقم، وهتک العصم الخ.. بحسب ما يتناسب مع الغايات التي هي محطّ نظرهم عليهم السلام.

والخلاصة: إن کل فئة من هؤلاء إنما تقصد الاستغفار والتوبة تطبيقاً للمعني الذي يناسب حالها، وموقعها وفهمها ووعيها، وطموحاتها وخصوصيات شخصيتها، وحياتها وفکرها وواقعها الذي تعيشه، أي أنهم يقرؤون الأدعية ويفهمونها، ويقصدون من تطبيقات معانيها ما يناسب حال کل منهم، وينسجم مع معارفهم، وطموحاتهم.. ولکنها علي کل حال أدعية مرسومة علي البشر کلهم، وللبشر کلهم.