بازگشت

وقفة قصيرة


إن هذا البعض قد لا يکون الوحيد الذي فسر الآيات بهذه الطريقة. ولکننا نسجل عليه وهو داعية دراسة الأمور بعقلانية وموضوعية، ما يلي:

1ً ـ إن هذا البعض يقول: إن احتباس الکلام لدي موسي کان إلي درجة لا يسمح له بإدارة الصراع بالأسلوب اللبق.

کما أن هذا الإحتباس قد بلغ حداً لا يسمح له بالحوار والجدال.

ولا ندري کيف استطاع عليه السلام أن يحاور فرعون حينما واجهه بالدعوة التي انتهت بجمع السحرة في يوم الزينة؟ وکيف استطاع أن يحاور بني إسرائيل في شأن البقرة وغيرها؟ بل کيف استطاع تأدية الرسالة التي بعث من أجلها لا سيما إن هارون الذي أرسل ليسد النقص الموجود عند موسي ـ کما يزعم هذا البعض ـ قد توفي قبل موسي (ع)، فماذا صنع موسي (ع) بنقصه الذي يعاني؟ ومن الذي قام مقام هارون في هذا الأمر؟

2ً ـ هذا بالإضافة إلي أن هذا البعض يتحدث عن موسي (ع) ويصوره لنا کأنه يعترض علي الله، ويدلّه علي أنه غير مصيب في إرساله، لأن ذلک سيکون أمراً عقيما، وعبثيا، ومن دون فائدة.فانظر إلي قول هذا البعض:

"إنني أعرف فيهم الطغيان.. مما يوحي بأن سبب مبادرة موسي باقتراح إرسال أخيه معه هو معرفته بطغيانهم ".

وکأن الباري تعالي لا يعرف ذلک.

3ً ـ مع أن موسي (ع) حين تحدث عن خوفه من تکذيبهم، وعن أن صدره يضيق بهذا التکذيب، وأن لسانه لن ينطلق معهم في البيان لأنهم سيتعاملون معه من موقع المعادي والحاقد، الذي لا يصغي إلي الحجة، ولا يخضع للدليل ـ نعم إن موسي (ع) حين تحدّث عن ذلک، فإنما أراد به أن يعرف من الله سبحانه أوجه معالجة الموقف في هذه الحالات والظروف الصعبة، ولا يريد أن يعرّف الله ـ والعياذ بالله ـ أن إرساله لا فائدة منه، لأن النتيجة معلومة علي حد زعمه.

4ً ـ أما بالنسبة لاحتباس لسان موسي (ع)، إن المراد ليس هو اللکنة في اللسان، التي تمثل عائقا عن الإفصاح في الکلام، بل المراد هو أن قتل القبطي، وکونه قد تربي عندهم سيجعلهم يتعاملون معه بطريقة حاقدة وغير عقلانية تمنعه من الإفصاح عن مراده ولذا فهو يطلب من الله أن يهديه إلي الطريقة المثلي في التعامل مع هذا الواقع الذي يواجهه.

علي أن هذا الإحتباس، لا ربط له باللباقة، وبالأسلوب،کما هو معلوم.

وسيأتي المزيد من توضيح هذا الأمر فيما يرتبط بالعقدة في لسان موسي عليه السلام في تعليقنا علي الفقرة التالية.

القرآن يوحي بما لا يتفق مع کون النبي أعلم الناس وأشجعهم وأکملهم في المطلق.

الرسالة تتصل بحرکة الکلام في لسانه، وطريقة التعبير في کلامه.

ضعف موسي في طبيعة الکلمة، والمنهج، والأسلوب، وقوة هارون في ذلک.

لکنة في لسان موسي تؤدي إلي ضعف موقفه.

نقاط ضعف بشري تتحرک بشکل طبيعي في شخصية النبي، حتي في مقام حمل الرسالة.

لکنة موسي تمنعه عن إفهام ما يريد للناس.

الجانب الغيبي لا يتدخل في تضخيم شخصية النبي علي حساب بشريته العادية.

اللکنة في لسان موسي تثير السخرية ونحوها.

وبعد ما تقدم نقول:

يتحدث البعض عن طلب موسي من الله أن يشد عضده بأخيه هارون، فکان مما لاحظه في هذه القصة ما أجمله بقوله:

".. (واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي) فقد کان يعيش حبسا في لسانه بحيث يمنعه من الطلاقة التي تفصح الکلمة بحيث يفهم الناس ما يريد أن يقوله.. لأن الرسالة تتصل بحرکة الکلام في لسانه، وطريقة التعبير في کلامه.

وتلک هي مشکلته الخاصة التي أراد الله أن يساعده في حلها وترويضها وتيسيرها وتسهيل صعوباتها.. فيما يريد أن يمارسه بجهده الذاتي (واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشرکه في أمري) لأن المهمة تحتاج إلي جهد آخر يشترک مع جهده في الدعوة والحرکة والانطلاق.. ليعاون أحدهما الآخر فيما يمکن أن يواجههما من مشاکل وقضايا وصعوبات، خصوصا في جانب الدعوة في طبيعة الکلمة والمنهج والأسلوب، الذي يتمتع هارون بمميزات جيدة لأن لسانه أفصح من لسان موسي، کما جاء في سورة أخري.. وتلک هي الروح المتواضعة الجادة التي تدرس حجم المسؤولية، وحجم إمکاناتها فإذا رأت بعضا من الخلل الذي قد يصيب المسؤولية أمام ضعف الإمکانات، فإنها لا تتعقد ولا تهرب من الواقع لتلجأ إلي الذات في عملية استغراق في الإيحاء بالقدرة الشاملة غير الموجودة لينعکس ذلک سلبا علي حرکة الموقف العملي، بل تعمل علي أن تستکمل القوة من جانب آخر لمصلحة العمل المسؤول.. وهذا هو ما فعله النبي موسي (ع) عندما أراد من الله أن يضيف إليه شريکا في أمره، لأنه يعيش بعض نقاط الضعف التي يملک فيها هارون نقاط قوة..

وهذا هو الذي يوجب علي العاملين في سبيل الله، أن يواجهوه فيما يتحملونه من مسؤوليات ليعملوا علي الإخلاص للدور العملي في استکمال کل الإمکانات التي يحتاجها، ولو کانت لدي الآخرين.. لأن ما نعانيه في ساحة العمل، هو أن بعض العاملين قد يدفعهم الشعور الأناني بالعظمة الفارغة، فيسيئون إلي مسؤولياتهم للحفاظ علي ذواتهم لأنهم لا يريدون الاعتراف بالحجم المحدود لقدراتهم، وبالإمکانات المتوفرة لدي الآخرين" [1] .

ويقول البعض أيضاً:

"وقد نلاحظ في هذه القصة، أن النبوة لا تتنافي مع الضعف البشري الذي يعيشه النبي ويعترف به، فيطلب إلي الله أن يقويه بإنسان آخر في أداء مهمته لا بواسطة تنمية قدراته الذاتية.. مما يوحي بأن الجانب الغيـبـي لا يتدخل في تضخيم شخصية النبي علي حساب بشريته العادية، بل يترک المسألة للطبيعة البشرية لتتکامل بطريقة عادية.. وهذا ما قد يحتاج إلي مزيد من الدراسة فيما يطلقه علماء الکلام فيما يتصل بصفات النبي، بأن يکون أعلم الناس وأشجعهم وأکملهم في المطلق.. فإن تأکيد القرآن علي نقاط الـضـعـف الـبـشري فـي شخصية الأنبياء، لا سيما في شخصية موسي (ع) قد توحي بما لا يتفق مـع ذلک" [2] .

ويقول أيضا:

".. وهناک نقطة أخري، وهي أن الرسالة تفرض الدخول في جدل مرير مع هؤلاء القوم يمکن أن يثيروه من شبهات، أو يطالبوه بالحجة، فيحتاج إلي التحدث بطريقة مقنعة حاسمة، بلسان فصيح.. وهذا ما لا يملکه موسي لِلَکْنة کانت في لسانه، مما يؤدي إلي ضعف موقفه الذي ينعکس سلباً، علي موقف الرسالة فيما قد يثيره ذلک من سخريةٍ ونحوها.. لذلک کان بحاجة إلي شخص آخر يشارکه المسؤولية، ليواجه مثل هذا الموقف الطارئ معه، أو ليکون بديلا عنه في مقارعة الحجة بالحجة.. ولهذا فقد أراد أن يکون أخوه هارون معه (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءاً) أي ناصراً ينصرني ويشد ظهري "يصدقني" ويشرح بفصاحته مواقع الـصـدق فـي رسالتي، ومواطن القوة في مـوقـفـي، (إني أخاف أن يکذبون) فيفرض ذلک عليّ الدفاع والجدال حول مفاهيم الرسالة ومواقعها" [3] .

ونجد هذا البعض يقول أيضا في موضع آخر في تفسير قوله تعالي (إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغي) [4] :

"ونلاحظ في هذه الآية الإشارة إلي ما يعيشه النبي من نقاط الضعف البشري التي تتحرک في شخصيته بشکل طبيعي، حتي في مقام حمل الرسالة.. فيتدخل اللطف الإلهي مـن أجل أن يمنحه القوة الـروحية التي تفتح قلبه، بعمق علي التأييد الإلهي في أوقات الشدة الأمر الذي يعطي الفکرة بأن النبي يتکامل في وعيه وقوته وحرکته في الرسالة." [5] .


پاورقي

[1] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 15 ص108 ـ 110.

[2] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج 15ص 110و111.

[3] من وحي القرآن: الطبعة الأولي، ج17 ص 326 ـ 328.

[4] سورة طه الآية 45.

[5] من وحي القرآن ج15 ص119.