بازگشت

وقفة قصيرة


إننا نسجل هنا ما يلي:

أولا: إنه ليس ثمة من دليل ملموس يدل علي أن نوحا صلوات الله وسلامه عليه کان يعلم بکفر ولده، فلعله کان قد أخفي کفره عن أبيه، فکان من الطبيعي أن يتوقع عليه السلام نجاة ذلک الولد الذي کان مؤمنا في ظاهر الأمر، وذلک لأنه مشمول للوعد الإلهي، فکان أن سأل الله سبحانه أن يهديه للحق، ويعرفه واقع الأمور، فأعلمه الله سبحانه بأن ولده لم يکن من أهله المؤمنين، وأنه من مصاديق (من سبق عليه القول) فتقبل نوح ذلک بروح راضية [1] .

ثانيا: إنه ليس ثمة ما يدل علي أن نوحا عليه الصلاة والسلام قد عاش الحسرة علي ولده، من حيث إنه ولده.. فإن الأنبياء يعيشون الحسرة علي الکافرين لما يفعلونه بأنفسهم، لا لقرابتهم منهم.

والشاهد علي ذلک ما حکاه القرآن عن نبينا الأکرم صلي الله عليه وآله وسلم، حيث خاطبه الله بقوله: (فلا تذهب نفسک عليهم حسرات).

ويقول: (فلعلک باخع نفسک علي آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا).

ويقول: (لعلک باخع نفسک ألاّ يکونوا مؤمنين).

غير أننا إن تأکد لدينا أن نوحا عليه السلام کان واقفا علي کفر ولده، فإن من المعقول والمقبول جدا فهم موقف نوح، علي أنه عليه السلام قد أراد أن يفهم الناس الذين نجوا وهلک أبناؤهم وآباؤهم وإخوانهم وأحباؤهم،أراد أن يفهمهم من خلال الوحي الإلهي: أن لا خصوصية لمن نجا من أهل نوح، کما لا خصوصية لمن هلک منهم ومن غيرهم، إلا ما يدخل في دائرة الإيمان، فلهم النجاة، أو في دائرة الکفر فلهم الهلاک..

وأراد أن يفهمهم أيضا أن القضية قد نالت فيمن نالت حتي نبي الله نوحا في ولده.. وأن هلاک ذلک الولد لم يکن فيه خلف للوعد الإلهي، لأن المقصود بالأهل الذين صدر الوعد بنجاتهم هم أهله المؤمنون.

ثالثا: إذا راجعنا الآيات نفسها، فلا نجد فيها أنه عليه السلام يطلب من ربه نجاة ولده، بل فيها أنه عليه السلام قد اعتبر رحمة الله ومغفرته هي الربح الأکبر، وبها تکون النجاة من الخسران.

ولأجل ذلک نجده عليه السلام قد قال: (إن ابني من أهلي) توطئة للرد الإلهي الذي سيحدد خصوصية الأهل الموعود بنجاتهم، وهم المؤمنون، دون الکافرين.. حيث قد سبق القول بإهلاک الکافرين سواء أکانوا من أهل نوح أو من غيرهم.

رابعاً: بالإضافة إلي ما تقدم نقول: إن نوحا عليه السلام قد طلب من ولده أن يرکب معهم، فقال:

(يا بني ارکب معنا، ولا تکن مع الکافرين، قال سآوي إلي جبل يعصمني من الماء، قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من رحم) [2] .

وهذا ـ أعني قوله تعالي: (ولا تکن مع الکافرين) يشير إلي أنه يراه مؤمنا، وأنه هو الذي رفض الرکوب معهم، وعرض نفسه للهلاک مع علم نوح بأن التخلف عن رکوب السفينة معناه التعرض للهلاک المحتم، وکان هذا هو خيار ولده نفسه..

ثم أشار (عليه السلام) إلي ما يفيد أنه لم يکن بصدد طلب نجاة ولده، ولا کان يتهم الله تعالي بخلف وعده، حيث صرح (ع) أن وعد الله هو الحق..

وقبل أن يتقدم بأي طلب من الله کان التعليم الإلهي له: أن لا يسأله ما ليس له به علم.

إذن، فهناک شيء لم يکن نوح مطلعا عليه، حسب دلالة الوحي الإلهي، فجاءت استجابة نوح لتؤکد علي أنه عليه السلام لم يسأله، ولن يسأله في المستقبل:

(فلا تسألن ما ليس لک به علم، إني أعظک أن تکون من الجاهلين قال ربّ إني أعوذ بک أن أسألک ما ليس لي به علم) [3] .

ثم جاء قوله عليه السلام: (وإلا تغفر لي، وترحمني أکن من الخاسرين) [4] ، ليؤکد هذه الحقيقة، حيث إنه قد استعمل کلمة (لا) ولم يستعمل کلمة (لم)،ليفيد أنه لا يتحدث عن الماضي، حيث لم يصدر منه ما يحتاج إلي ذلک، بل هو يتحدث عن المستقبل.

ويتضمن هذا التعبير إشارة إلي أن طلب الأنبياء للمغفرة، إنما يراد منه طلب دفع المعصية عنهم، لا رفعها، کما هو معلوم عند أهله..

خامساً: إنه ليس ثمة ما يدل علي أن نوحا عليه السلام، لم يلتفت إلي کلمة (إلا من سبق عليه القول) أو أن هذه الکلمة لم تکن واضحة حين الوحي، علما أن ذلک يخالف العصمة في البلاغ وفي التبليغ، وهي أمر عقلي، مسلّم وقطعي، عند جميع المسلمين، وليس في الآيات أيضا: أن نوحا قد عاش الحسرة علي الکافر، حتي لو کان ذلک الکافر هو ولده بالذات.

سادساً: وأخيراً، هناک الکثير من الاحتمالات التي تتحملها الآيات بحيث تکون بعيدة عن وصم الأنبياء (ع) بهذه النقائص، ولا تتنافي مع (بلاغة القرآن)، فلماذا اختيار التفاسير التي تظهر أو تنسب نقيصة للنبي أو الولي، دون غيرها من التفاسير التي تنزههم عن مثل هذه النقائص؟!


پاورقي

[1] راجع تفسير الميزان ج10ص232.

[2] سورة هود الآية 42و43.

[3] سورة هود الآية 46و47.

[4] سورة هود الآية 47.