بازگشت

القسمت 25




عاد رسول اللَّه إلي المدينة، والفرحة تملأ صدره بفتح اللَّه، فقد أمن جانب قريش و آن للدين الجديد أن يعبر شبه الجزيرة إلي العالم کله.

توجه النبي کعادته إلي المسجد فصلّي رکعتين، غسلت عنه عناء السفر وهموم الحياة، و نهض النبيّ لزيارة ابنته.. ذکراه من خديجة وکوثره الذي وهبه اللَّه...

قرع الباب فهبت فاطمة للقاء النبي، کانت تحاول إخفاء ما تعانيه من إعياء و تعب.

فتحت الباب و البسمة تشرق في وجهها، تأمّل النبي وجه ابنته الوجه المشرق تشوبه صفرة فبدا کقمر انهکه السهر في ليلة شتائية طويلة.

قال الأب بحزن:


- يا بنية ما هذا الصفار في وجهک و تغير حدقتيک؟

أجابت فاطمة بصوت واهن:

- يا أبه ان لنا ثلاثاً ما طعمنا طعاماً... وقد بکي الحسنان من شدة الجوع حتي غلبهما النوم..

أيقظ النبي ريحانتيه.. وضعهما في حجرة وقد نسيا ألم الجوع کعصفورين فرحين بدف ء العش.

کان علي يبحث عمن يقرضه دريهمات يسدُّ بها رمق اسرته، و کانت الشمس ترسل أشعتها ملتهبة. لم تمض مدّة حتي وجد من يقرضه ديناراً فانطلق يشتري به شيئاً.

المدينة تبدو مهجورة و قد فرّ أهلها من الرمضاء و الحر.

من بعيد لاح له رجل يمشي علي غير هدي.. دقّق النظر فيه و لما اقترب منه بادره عليّ:

- ما الذي أخرجک يا مقداد في هذه الساعة؟

- الجوع يا أباالحسن.. عضني وأهلي الجوع.. وأبحث عمّن يقرضني درهماً أو ديناراً.

ان للجوع فعله العجيب في النفوس.. تارة يهذبها فتسمو إلي السماء و تارة ينحطّ بها إلي أسفل السافلين. الجوع يصنع ملائکة و شياطين.. وکلا الخيارين يتوقّفان علي إرادة الإنسان أو علي غريزة


ذلک الحيوان القابع في الأعماق المظلمة وليس في حياة علي من وقت لکي تنشب معرکة بين الذات و الايثار لأنّه لايوجد في أعماقه المضيئة من يعترض علي إرادته التي صقلتها النبوّات..

وهکذا قدم علي کل ما يملکه إلي أخيه وعاد إلي البيت خالي اليدين.

کان المنزل هادئاً تغمرة رحمة من السماء و وجد في الحجرة رسول اللَّه.. و کان الحسنان في حجرة و فاطمة تصلّي في المحراب وقد ملأت فضاء الحجرة رائحة طيبة لطعام طيب ولما جلس علي قبالة رجل ربّاه في حجرة تمتم النبي و هو يرمق السماء بخشوع:

- اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا.

فرغت فاطمة من تبتلها و مدت يدها إلي جفنة مغطاة.. و کان في الجفنة خبز و لحم.

قال علي متعجباً:

- يا فاطمة أنّي لک هذا؟

أجابت فاطمة بنت رسول السماء:

- هو من عند اللَّه.. ان اللَّه يرزق من يشاء بغير حساب.

قال النبي مبتسماً:

- إن مثلکما کمثل زکريا إذ دخل علي مريم فوجد عندها رزقاً


قال: يا مريم أني لک هذا قالت هو من عند اللَّه ان اللَّه يرزق من يشاء بغير حساب.

لو اُزيحت الحجب عن العيون لرأي سکّان المدينة منزلاً إلي جوار المسجد.. ولو دققوا النظر لرأوا أثر جبريل في حجراته. يلج المرء فيجد نفسه في بقعة لا تنتمي إلي طين الأرض... إلي عالم من تراب... بقعة اختارتها الملائکة يوم هبطت علي الأرض.. يوم اتصل النور بالطين ليولد الإنسان السماوي الذي انطوت في أعماقه أسرار الوجود.

کانوا خمسة: محمد.. علي.. فاطمة.. حسن و حسين... اسماء ولدت يوم عطس آدم... واستنشق نسمة الحياة، و يوم قال اللَّه لنوح: ان اصنع الفلک بوحينا.. و يوم فار التنوّر کان نوح يتأمّل السماء و هي تنهمر مطراً کأفواه القرب وجبال من الغيوم تتراکم بعضها فوق بعض.. ولتتحول تلک الأرض الجرداء إلي بحر متلاطم الأمواج و سارت السفينة باسم اللَّه تشقّ طريقها في موج کالجبال.. ومقدمة السفينة تعلو و تهبط مالها من قرار. أصوات الحيوانات وهدير الموج و تمتمات دعاء المؤمنين تمتزج تطهر القلب فيتألق الأمل.. الأمل بمستقبل طاهر للأرض. السفينة تجري لمسستقر لها.. وقد اجتمع المؤمنون أمام خشبة صغيرة مستطيلة الشکل فيها اسماء أثارت دهشتهم و حرکت


کوامن الأسئلة في أعماقهم.. کلمات صغيرة واضحة مکتوبة بلغة شعب عاش قبل الطوفان؛ کلمات تحمل لهم الأمل بالخلاص بغصن زيتون أخضر... کلمات تتألّق بألوان قزح.. کلمات حفرها نوح تعويذة أمل في الحياة:

- يا إلهي.. و يا معيني.

برحمتک و کرمک ساعدني.

ولأجل هذه النفوس المقدّسة.

محمد.

ايليا.

شبر.

شبير.

فاطمة.

الذين هم جميعهم عظماء و مکرمون.

العالم قائم لأجلهم.

ساعدني لأجل أسمائهم.

أنت فقط تستطبع أن توجهني نحو الطريق المستقيم.

و تمخر السفينة عباب المياه حتي استوت علي الجودي و قيل يا أرض ابلعي ماءک و يا سماء اقلعي... و عادت حمامة بيضاء تحمل


غصن الزيتون.. و قد تألقت في السماء ألوان الأمل و الربيع.

و همس النبي في اُذن التاريخ و هو يضم ريحانتيه:

- مَثَلُ أهل بيتي مثل سفينة نوح من رکبها نجا ومَن تخلّف عنها غرق.