بازگشت

في تسميتها بمشكاة الضياء و في تفسير آية النور




و منها مشکاة الضياء، و هذا إشارة إلي کونها (عليهاالسّلام) مصداق آية النور، و هو کذلک علي أحد الوجوه إذ للآية المذکورة تفسيرات کثيرة منقولة و محتملة،


کما سنشير إليها في الجملة، و الآية هي قوله تعالي في سورة النور: «اللَّه نور السماوات و الأرض» [1] .

قيل: هو بتقدير المضاف في المبتدأ أو في الخبر، أي نور اللَّه نور السماوات و الأرض، أو اللَّه ذو نور السماوات و الأرض، و هذا مثل قولهم زيدٌ کرم و جود ينعش الناس بکرمه و جوده، أي ذو کرم و جود، أو الحمل للمبالغة بجعل الإسناد مجازيّاً، أو النور هنا بمعني المنوّر أي منوّرهما بالنجوم مثلاً نظير الوجوهات الأربعة المشهورة في نحو زيد عدلٌ.

أو أنّ النور هنا إستعارة في اللَّه سبحانه علي أحد الوجهين في نحو زيد أسد، لتشبيهه تعالي بالنور في الوضوح و الظهور، و إلّا فليس هو تعالي من جنس الظلمة أو النور، أو المراد علي سبيل الکناية معني من لوازم النور، مثل معني المضي ء أو الهادي، أو المزيّن، أو النافع، أو المعطي، أو المفيض، أو المحسن، أو المنوّر أو نحو ذلک.

و الإضافة إلي السماوات و الأرض امّا للدلالة علي سعة إشراقهما و فشوّ ضيائهما و نحو ذلک، أو المراد أهلهما أي ما فيهما و ما بينهما و ما تحتهما و ما فوقهما مجازاً مع استلزام تنوّرهما تنوّر سائر الموجودات الموجودة فيهما، و المراد من السماوات ما يعمّ الکرسي و العرش أيضاً و کذلک الأفلاک الکلّيّة و الجزئيّة.

و خصّ السماوات و الأرض بالذکر دون الملائکة و الجنّ و الشياطين و الإنس و سائر الحيوانات بل النباتات و الجمادات، لأنّها مطارح الأنوار، و خزائن الأسباب، و علل الأشياء، و يجوز أن يراد سماوات العقول، أي منوّرها بما فيها من أنوار المعرفة، و أراضي النفوس أي منوّرها بما فيها من أنوار العبادة و الطاعة.

و الحاصل انّ اللَّه تعالي مضي ء السماوات و الأرضين الظاهريّة أو الباطنيّة


أيضاً أو أهلهما، أي الموجودات المتکوّنة فيهما بالکواکب النورانيّة الظاهريّة أو الباطنيّة أيضاً، أو هاديهم إلي مصالحهم، أو مزيّنهم بالملائکة، و الأنبياء، و الصدّيقين، و الشهداء، و سائر الأولياء، و العلماء، و المؤمنين، و الصلحاء، أو نافعهم، أو معطيهم بما ينفعهم من الانعام، أو المفيض عليهم، أو المحسن إليهم بافاضته الکاملة و إحسانه العام، أو منوّرهم بنور الوجود التامّ و نحو ذلک.

و الحقّ عدم الحاجة إلي شي ء من هذه التوجيهات في المقام لصحّة حمل النور و إطلاقه علي اللَّه تعالي بلا کلام، فإنّ النور لغة هو الظاهر في نفسه المظهر لغيره، و اللَّه تعالي کذلک، غاية الأمر انّه تعالي نور لا کالأنوار، کما أنّه شي ء لا کالأشياء، و جوهر لا کالجواهر، و وجه الکلّ ظاهر.

فهو تعالي نور حقيقة بالنسبة إلي جميع الموجودات، و ليس شي ء من هذه الأنوار الظاهرة الزاهرة إلّا و هو من آثار هذا النور الحقيقي، فهو مبدء جميع الأنوار، و منشأ جميع الآثار.

و قد ورد في الأدعية انّه تعالي نور الأنوار، و نور النور، و منوّر النور، و نور علي نور، فاللَّه تعالي نور السماوات و الأرض بالحقيقة بلا حاجة إلي التأويل بالمرّة، و کونه تعالي مظهراً لغيره ظاهر، و أمّا کونه ظاهراً في نفسه فهو أيضاً ظاهر، بل أظهر عند أهل النظر، فإنّ کلّ ظاهر سواه فإنّما ظهر بفضل ظهوره تعالي، فهو تعالي أظهر في ظهوره من ظهور کلّ ما سواه بنوره.

أيکون لغيره من الظهور ما ليس له حتي يکون هو المظهر له، متي غاب حتي يحتاج إلي دليل يدلّ عليه؟! و متي بَعُدَ حتي تکون الإشارة هي التي توصل إليه؟! و إنّ الذي لا يجوز إطلاقه عليه تعالي حقيقة هو النور بالمعني العرفي الذي هو من الکيفيّات العارضة، لا النور بالمعني الأصلي الحقيقي، و سيجي ء بعض ما يتعلّق بالمقام من کلام القاضي البيضاوي، و حسام الدين الحلبي، و غيرهما.

«و مثل نوره» أي صفة نوره العجيب الشأن في الإضاءة، أو هيکله، أو نفسه، أو حالته «کمشکاة» أي کصفة مشکاة کذلک، و المشکاة قيل: إنّها لغة روميّة


معرّبة، و قال الزجّاج: يجوز أن تکون عربيّة لأنّ في الکلام مثل لفظها، و هي شکوة بمعني القربة الصغيرة، فعلي هذا تکون المشکاة مفعلة منها.

و أصلها «مِشْکَوَةٌ» و هي الکوّة في الحائط و الجدار الغير النافذة، يوضع عليها الزجاجة، و يجعل المصباح خلف الزجاجة، و يکون للکوّة باب آخر يوضع المصباح منه، و قيل: المشکاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة المشتعلة، و هو انبوبته و هو مثل الکوّة، و قيل: المشکاة هي نفس القنديل، و الظاهر هو المعني الأوّل.

«فيها مصباح» و المراد من المصباح آلة الضياء، و هي الشعلة الحاصلة من استحالة الأجزاء الدهنيّة المخالطة للفتيلة بمجاورة النار، أو هي الشعلة مع الفتيلة و يقال لها السراج أيضاً.

و إذا کان السراج قد يطلق علي ظرف الفتيلة باعتبار علاقة الحاليّة و المحلّيّة، أو المصباح هو السراج الضخم الثاقب، و لو کان معناه مطلق السراج فالمراد هنا هو المقيّد بالوصف المذکور بمعونة تنوين التعظيم، و أصل المصباح من الصباح بمعني البياض، و لذا يطلق علي بياض النهار أيضاً فيقال: الصباح يغني عن المصباح، و الأصبح: الأبيض، و هذا کلّه بملاحظة اللون الظاهري.

و قد يراد بالبياض و الصباحة کثرة الافضال و الإحسان و النفع و الإهتداء، و نوريّة الطينة، قال أبو طالب (عليه السّلام) في مدح النّبيّ (صلّي اللَّه عليه و آله):


و أبيض يستسقي الغمام بوجهه

ثمال اليتامي عصمة للأرامل


يلوذ به الهلّاک من آل هاشم

فهم عنده في نعمة و فواضل


و يجوز أن يکون مراده من الأبيض کونه نوراني الوجه کالشمس المشرقة بالأنوار الصوريّة و المعنويّة، و الوجاهة الظاهريّة و الباطنيّة.

«المصباح في زجاجة» الزجاجة معروفة، و الضمّ فيه أشهر من التثليث و به قرأ السبعة، و يقال لبائعها: الزجاجيّ- بياء النسبة- و لصانعها: الزجّاج، مثل النّجّار و العطّار، و التنوين في (زجاجة) للتعظيم، کما انّ تعريفها و إعادتها مرّة ثانية لذلک.


و المراد من الزجاجة هنا کاسة القنديل من البلّور التي يجعل فيها الفتيلة مع الزيت، و هي غير زجاجة المشکاة المجعولة في باب الکوّة، و لذا قال تعالي: «الزجاجة کأنّها کوکب درّي» قُرئ الدُرّيّ بضمّ الدال و تشديد الراء و الياء، نسبة إلي الدرّ في الصفاء و الضياء، و الکوکب الدرّي هو أحد الدراري من الکواکب، و هي المشاهير منها کالمشتري و الزهرة و المرّيخ و سهيل و نحوها.

و قُرئ الدرِّيّ علي وزن السکيت، و الدَرِيُّ علي فعيل کالنّبيّ، من الدرء بمعني الدفع بقلب الهمزة ياءً فيهما أو إبقائها علي أصلها، أي الدافع للظلام بکمال ضوئه، أو المندفع السريع الوقع في الإنقضاض، و يکون ذلک أقوي لضوئه.

قيل في نکتة جَعْل النور علي هذا الوجه: إنّ وجهه المبالغة حيث انّه ينبعث نور المصباح حينئذٍ من الزجاجة، و يقع علي حائط الکوّة، و ينعکس منه إلي الزجاجة، فيکون نور المصباح و نور الزجاجة و نور الحائط ينعکس بعضها علي بعض مع کونه في مکان ضيّق، فيکون أضوء و أجمع للنور من جهة ضيق المکان، إذ الضوء ينبثّ في المکان الواسع و ينتشر، و القنديل أعون شي ء علي زيادة الإنارة و کذلک الزيت و صفائه، فيتضاعف النور، کما يشير إليه قوله تعالي: «نور علي نور» علي نحو ما يأتي.

أقول: و نظير المشکاة مع زجاجة فيها، في الزجاجة مصباح- علي ما وصف في الآية- ما هو المعمول في هذه الأزمنة من المردنجي و ما يجعل فيه من قنديل بلوريّ علي رأسه کأسة صغيرة مدوّرة بلوريّة يجعل فيها الزيت مع الفتيلة.

و أشدّ ما يکون الضوء في هذه الحالة لصفاء الزيت و الزجاجة المدوّرة البرّاقة، کالکوکب الدرّي التي فيها الفتيلة المشتعلة، فينتشر الأضواء في تلک الزجاجة و في أطراف المردنجيّ البلّوري، و يتراءي في حافّاته الصور المتعدّدة من شعلة الفتيلة، کأنّها فتائل و شعلات في قناديل متعدّدة، فيحصل لها مضافاً إلي شدّة النوريّة حالة صفاء و بهاء و جلالة تبهر العقول و الأنظار، يکاد سنا ضوئها تخطف الأبصار.

و الحاصل من إعتبار المعني علي السبک المستفاد من الآية، کون شي ء برّاق


نوراني کالفتيلة المشتعلة الضخمة في جوف شي ء کالزجاجة، و هو في جوف شي ء صاف آخر کالمشکاة، فيکون هناک مظروف نوراني في أشد مراتب النوريّة، و ظرفان متداخلان صافيان برّاقان بأنفسهما و بنوريّة المظروف الموجود فيهما أي في جوفهما.

«يوقد» قُرئ بالياء، مخفّف القاف و مشدّدها، مجهولاً فيهما، و يَتَوَقَّدُ من باب التفعّل معلوماً، و يوقد بالياء من الباب المذکور مع حذف التاء لاجتماع حرفين زائدين و هو غريب، و ضمير الفاعل مطلقاً يراجع إلي المصباح، و المعني علي جميع القراءات المذکورة انّه يشعل ذلک المصباح أي السراج الضخم الثاقب للظلام، «من شجرة مبارکة زيتونة» و إبهام الشجرة و وصفها بالمبارکة ثم بيانها بالزيتونة، أو استبدالها بها تفخيم لشأنها.

و المراد انّه زويت زبالة هذا المصباح بزيت شجر الزيتون الذي يکون دهنه أصفي من سائر الأدهان و أضوء، لا سيّما في السراج مع کونه متکاثر المنفعة، فإنّ فيه أنواع المنافع حيث انّ الزيت يسرج به، و هو أدام و دهان و دباغ، و يوقد بحطبه، و يدبغ بثفله، و يغسل برماده الابريسم، و لا يحتاج في استخراج دهنه إلي عصّار.

و هي أوّل شجرة نبتت في الدنيا بعد الطوفان، و منبتها منزل الأنبياء غالباً أي الشامات، و بارک فيها ستون نبياً أو سبعون، منهم إبراهيم (عليه السّلام)، و لذا سمّيت مبارکة، أو لأنّها تنبت في الأرض المبارکة التي بارک اللَّه فيها للعالمين، و عن النّبيّ (صلّي اللَّه عليه و آله): «عليکم بزيت هذه الشجرة الزيتونة، فتداولوها فإنّها مصحّحة من الناسور» و لها منافع کثيرة في الأدواء المختلفة.

«لا شرقيّة و لا غربيّة» أي لا يفي ء عليها ظلّ شرق و لا غرب، فهي ضاحية للشمس لا يظلّها جبل و لا شجر و لا کهف، فثمرتها تکون أنضج و زيتها أصفي، فالمعني أنّها ليست بشرقيّة لا يصيبها الشمس إذا غربت، و لا بغربيّة لا يصيبها الشمس إذا طلعت، بل هي شرقيّة غربيّة، و ذلک بأنّها وقعت في رأس جبل، أو في صحراء واسعة بلا اختصاص بأحد الطرفين، فأخذت بحظّها من الأمرين.


أو المراد انّها ليست من جنس شجر الدنيا فتکون شرقيّة أو غربيّة، بل هي من أشجار البرزخ أو الآخرة فتکون في غاية الصفاء و الجودة، أو أنّها ليست في مقناة لا يصيبها الشمس، و لا هي في مضحاة بارزة للشمس لا يصيبها الظلّ، بل يصيبها الشمس و الظلّ فيتعاقبان عليها، و ذلک أجود لحملها و أصفي لدهنها، قال (صلّي اللَّه عليه و آله): «لا خير في شجرة في مقناة و لا نبات في مقناة، و لا خير فيهما في مضحاة» [2] .

أو انّها ليست من شجر الشرق أي الشرق المعمورة، و لا من شجر الغرب أي غرب المعمورة، لأنّ ما اختصّ بإحدي الجهتين کان أقلّ زيتاً و أضعف ضوء، لکنّها من شجر الشام، و نقل انّ أجود الزيتون زيتون الشامات، و هي ما بين شرق المعمورة و غربها.

أو المراد انّها علي سواء الجبل [3] لا شرق لها و لا غرب، بل إذا طلعت الشمس طلعت عليها، و إذا غربت غربت عنها، و حاصل هذا المعني من حيث المراد يرجع إلي الأوّل و إن کان مغايراً له في الطريق، أو المراد انّ هذه الشجرة خضراء ناعمة التفّ بها الأشجار، فلا يصيبها الشمس علي أيّ حال کانت، لا إذا طلعت و لا إذا غربت.

«يکاد يضي ء» من صفائه، و فرط ضيائه في نفسه «و لو لم تمسسه نار» بالتاء و قُرئ بالياء أيضاً لکون المؤنّث غير حقيقي، و المراد قبل أن تمسسه و تشتعل فيه، و ذلک من جهة کمال الإستعداد و القابليّة.

«نور علي نور» أي هذا المصباح في جوف الزيت الصافي في الزجاجة البرّاقة المجعولة في المشکاة النوريّة، نورٌ علي نور، و التثنية لافادة الکثرة لکونه علي ما اُشير إليه أنواراً متعدّدة متداخلة، نوراً علي نور علي نور، و نوراً في نور


في نور، و نوراً علي نور في نور، و نوراً في نور علي نور.

و الحاصل انّ النور متضاعف، فإنّ نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت، و زهرة القنديل الزجاجي، و المشکاة النوريّة، و ضبطها للأشعّة مع اجتماع الأنوار و عدم حصول الإنتشار، علي ما اُشير إليه سابقاً.

«يهدي اللَّه لنوره من يشاء» أي يهدي اللَّه لهذا النور الثاقب الباهر- بأيّ معني اُريد- من يشاء من عباده بإعطاء الإستعداد، أو التوفيق و اللطف، أو إزالة الخذلان.

«و يضرب اللَّه الأمثال للناس» تقريباً إلي الأفهام، و تسهيلاً لدرک المرام، بإدناء المعقول إلي المحسوس إيضاحاً و بياناً و توضيحاً و تبياناً «و اللَّه بکلّ شي ء» معقولاً کان أو محسوساً، ظاهراً کان أو باطناً «عليمٌ» فيضع الأشياء مواضعها، أو يعلم قابليّة العباد فيهدي بعضهم إلي نوره بإفاضة الإستعداد، و بعضهم بإعانة التوفيق و اللطف، و بعضهم بعدم الخذلان، و هو الکريم المنّان ذو اللطف و الإحسان.


پاورقي

[1] النور: 35.

[2] راجع شرح توحيد الصدوق للقاضي سعيد القمي 2: 597، و نحوه تفسير البيضاوي 3: 199، و البحار 4: 21.

[3] سَواءُ الشي ء و سِواهُ و سُواهُ: وسطه، قال اللَّه تعالي: «في سَواء الجحيم»/ لسان العرب.