بازگشت

تحليل الموقف في قصة السقيفة




لست الآن بصدد تحليل الموقف الذي اشتبک فيه الأنصار مع أبي بکر و عمر و أبي عبيدة و شرح ما يدلّ عليه من نفسيّه المجتمع الإسلامي و مزاجه السياسي، و تطبيق قصّة السقيفة [1] علي الاُصول العميقة في الطبيعة العربية، فإنّ ذلک کلّه خارج عن الحدود القريبة للموضوع، و إنّما اُريد أن اُلاحظ أنّ الحزب الثلاثي الذي قُدّر له أن يلي الاُمور يومئذٍ کان له معارضون علي ثلاثة أقسام:

الأوّل: الأنصار الذين نازعوا الخليفة و صاحبيه في سقيفة بني ساعدة و وقعت بينهم المحاورة السابقة التي انتهت بفوز قريش بسبب ترکّز فکرة الوراثة الدينية في الذهنية العربية، وانشقاق الأنصار [2] علي أنفسهم؛ لِتمَکُّن النزعة القبيلة من نفوسهم.

الثاني: الاُمويّون الذين کانوا يريدون أن يأخذوا من الحکم بنصيب و يسترجعوا شيئاً من مجدهم السياسي [3] في الجاهلية و علي رأسهم أبوسفيان.


الثالث: الهاشميّون و أخصّاؤهم کعمّار و سلمان و أبي ذرّ و المقداد رضوان اللَّه عليهم و جماعات من الناس [4] الذين کانوا يروسن البيت الهاشمي هو الوارث الطبيعي لرسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم بحکم الفطرة و مناهج السياسية التي کانوا يألفونها.

واشتبک أبوبکر و صاحباه في النزاع مع القسم الأوّل في سقيفة بني ساعدة، و رکّزوا في ذلک الموقف دفاعهم عمّا زعموا من حقوق علي نقطة کانت ذات و جاهة في نظر کثير من الناس؛ فإنّ قريشاً ما دامت عشيرة رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و خاصّته [5] فهي أولي به من سائر المسلمين و أحقّ بخلافته و سلطانه.

و قد انتفع أبوبکر و حزبه باجتماع الأنصار في السقيفة من ناحيتين:

(الاُولي) أن الأنصار سجّلوا علي أنفسهم بذلک مذهباً لا يسمح لهم بأن يقفوا بعد ذلک إلي صف عليّ و يخدموا قضيّته بالمعني الصحيح کما سنوضّحه قريباً.

(الثانية) أنّ أبابکر الذي خدمته الظروف فأقامت منه المُدافع الوحيد عن حقوق المهاجرين في مجتمع الأنصار لم يکن ليتهيّأ له ظرف أوفق


بمصالحه من ظرف السقيفة؛ إذ خلا الموقف من أقطاب المهاجرين الذين لم يکن لتنتهي المسألة في محضرهم إلي نتيجتها التي سجّلتها السقيفة في ذلک اليوم.

و خرج أبوبکر من السقيفة خليفة و قد بايعه جمع من المسلمين الذين أخذوا بوجهة نظره في مسألة الخلافة أو عزّ عليهم أن يتولّاها سعد بن عبادة.

ولم يعبأ الحاکمون بمعارضة الاُمويين و تهديد أبي سفيان و ما أعلنه من کلمات الثورة بعد رجوعه من سفره الذي بعثه فيه رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم لجباية الأموال؛ لعلمهم بطبيعة النفس الاُموية و شهواتها السياسية والمادية. فکان من السهل کسب الاُمويّين إلي جانب الحکم القائم کما صنع أبوبکر فأباح لنفسه أو أباح له عمر بتعبير أصحّ کما تدلّ الرواية [6] ، أنّ يدفع لأبي سفيان جميع ما في يده من أموال المسلمين و زکواتهم [7] ثمّ جعل للاُمويّين [8] بعد ذلک حظّاً من العمل الحکومي في عدّة من المرافق الهامّة.

و هکذا نجح الحزب الحاکم في نقطتين، و لکن هذا النجاح جرّه إلي تناقض سياسي واضح؛ لأنّ ظروف السقيفة کانت تدعو الحاکمين إلي أن يجعلوا للقرابة من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم حساباً في مسألة الخلافة و يقرّوا مذهب


الوراثة للزعامة الدينية. غير أنّ الحال تبدّلت بعد موقف السقيفة والمعارضة اتّخذت لها لوناً جديداً و واضحاً کل الوضوح يتلخّص في أنّ قريشاً إذا کانت أولي برسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم من سائر العرب لأنّه منها فبنو هاشم أحقّ بالأمر من بقية قريش.

و هذا ما أعلنه عليّ حين قال: إذا أحتجّ عليهم المهاجرون بالقرب من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم کانت الحجّة لنا علي المهاجرين بذلک قائمة، فإن فلجت حجّتهم کانت لنا دونهم و إلّا فالأنصار علي دعوتهم [9] ، و أوضحه العبّاس لأبي بکر في حديث له معه إذ قال له: و أمّا قولک نحن شجرة رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم فإنّکم جيرانها و نحن أغصانها [10] .

و قد کان عليّ الذي تزعّم معارضة الهاشميين مصدر رعب شديد في نفوس الحاکمين؛ لأنّ ظروفه الخاصّة کانت تمدّه بقوّة علي لونين من العمل الإيجابي ضدّ الحکومة القائمة:-

أحدهما ضمّ الأحزاب المادية إلي جانبه کالاُمويّين والمغيرة بن شعبة و أمثالهم ممن کانوا قد بدأوا يعرضون أصواتهم للبيع و يفاوضون الجهات المختلفة في اشترائها بأضخم الأثمان، کما نعرف ذلک من کلمات أبي سفيان التي واجه بها خلافة السقيفة يوم وصوله إلي المدينة، و حديثه مع عليّ و تحريضه له علي الثورة، و ميله إلي جانب الخليفة، و سکوته عن المعارضة حينما تنازل له الخليفة عن أموال المسلمين [11] التي کان قد جباها


في سفره، و موقف عتاب بن اُسيد الذي سنشير إلي سرّه في هذا الفصل.

و إذن فقد کان الهوي المادّي مستولياً علي جماعة من الناس يومئذٍ.

و من الواضح أنّ عليّاً کان يتمکّن من إشباع رغبتهم بما خلّفه رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم من الخمس و غلّات أراضيه في المدينة و فدک التي کانت ذات نتاج عظيم کما عرفنا في الفصل السابق.

والطور الآخر من المقاومة التي کان عليّ مزوّداً بإمکانياتها ما لمّح إليه بقوله: «احتجوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة»، و أعني بذلک أنّ الفکرة العامّة يومئذٍ التي أجمعت [12] علي تقديس أهل البيت و الاعتراف لهم بالامتياز العظيم بقربهم من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم کانت سنداً قويّاً للمعارضة.

و قد رأي الحزب الحاکم أنّ موقفه الماديّ حرِج جدّاً؛ لأنّ أطراف المملکة التي تجبي منها الأموال لا تخضع للحکم الجديد إلّا إذا استقرّت دعائمه في العاصمة، و المدينة بعد لم تخضع له خضوعاً إجماعياً.

و لئن کان أبوسفيان أو غير أبي سفيان قد باع صوته للحکومة، فمن الممکن أن يفسخ المعاملة إذا عرض عليه شخص آخر اتّفاقاً أکثر منها ربحاً، و هذا ما کان يستطيع عليّ أن يقوم به في کل حين. فيجب والحالة هذه أن تنتزع من عليّ الذي لم يکن مستعدّاً للمقابلة في تلک الساعة الأموال التي صارت مصدراً من مصادر الخطر علي مصالح الحزب الحاکم ليضمن بقاء


الأنصار علي نصرتهم، و عدم قدرة المعارضين علي إنشاء حزب من أصحاب المطامع و الأهواء يومذاک.

و لا يجوز أن نستبعد هذا التقدير لسياسة الفئة المسيطرة ما دام منطبقاً علي طبيعة السياسة التي لابدّ من انتهاجها. و ما دمنا نعلم أنّ الصدّيق اشتري صوت الحزب الاُموي بالمال؛ فتنازل لأبي سفيان عن جميع ما کان عنده من أموال المسلمين، و بالجاه أيضاً إذ ولّي ابن أبي سفيان؛ فقد جاء أنّ أبابکر لمّا استُخلف قال أبوسفيان: ما لنا و لأبي فصيل إنّما هي بنو عبدمناف فقيل له أنّه قد ولّي ابنک قال: وصلته رحم [13] .

فلا غرابة في أن ينتزع من أهل البيت أموالهم المهمّة ليرکّز بذلک حکومته، أو أن يخشي من عليّ عليه السلام أن يصرف حاصلات فدک و غير فدک علي الدعوة إلي نفسه.

و کيف نستغرب ذلک من رجل کالصدّيق و هو الذي قد اتّخذ المال وسيلة من وسائل الإغراء، واکتساب الأصوات حتّي اتّهمتهُ بذلک معاصرة له من مؤمنات ذلک الزمان فقد ورد أنّ الناس لمّا اجتمعوا علي أبي بکر قسم قسماً بين نساء المهاجرين والأنصار، فبعث إلي امرأة من بني عدي بن النجار قسمها مع زيد بن ثابت فقالت: ما هذا؟ قال: قسم قسمه أبوبکر للنساء، قالت: أتراشوني عن ديني؟ واللَّه لا أقبل منه شيئاً. فردّته عليه [14] .

و أنا لا أدري من أين جاء إلي الخليفة (رضي اللَّه تعالي عنه) هذا المال


ما دامت الزکوات التي جمعها الساعي قد صارت من نصيب بطنه [15] وحدها، إن لم يکن من بقية الأموال التي خلّفها النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم و کان أهل البيت يطالبون بها.

و سواء أصحّ هذا التقدير أو لا، فإنّ المعني الذي نحاول فهمه من هذه الرواية هو أنّ بعض معاصري الصدِّيق أحسّ بما نحسّ به علي ضوء معلوماتنا التاريخية عن تلک الأيام.

و لا ننسي أن نلاحظ أنّ الظروف الاقتصادية العامّة کانت تدعوا إلي الارتفاع بماليّة الدولة والاهتمام بإکثارها استعداداً للطوارئ المترقّبة؛ فلعلّ هذا حدي بالحاکمين إلي انتزاع فدک، کما يتبيّن ذلک بوضوح من حديث لعمر مع أبي بکر يمنعه [16] فيه عن تسليم فدک إلي الزهراء و يعلّل ذلک بأنّ الدولة في حاجة إلي المال لإنفاقه في توطيد الحکم، و تأديب العُصاة، و القضاء علي الحرکات الانفصالية التي قد يقوم بها المرتدّون.

و يظهر من هذا رأي للخليفتين في الملکية الفردية، هو أنّ للخليفة الحقّ في مصادرة أموال الناس لإنفاقها في اُمُور المملکة و شؤون الدولة العامّة بلا تعويض، و لا استئذان. فليس للفرد ملکية مستقرّة لأمواله و عقاره في حال احتياج السلطات إلي شي ء منها. و قد ذهب إلي هذا الرأي کثير من


الخلفاء الذين انتهي إليهم الأمر بعد أبي بکر و عمر، فامتلأ تاريخهم بالمصادرات [17] التي کانوا يقومون بها: غير أنّ أبابکر لم يطبّق هذا الرأي إلّا في أملاک بنت النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم خاصّة.

و قد تردّد الحزب الحاکم في معالجة الاُسلوب الثاني من المعارضة بين اثنتين:-

(إحداهما) أن لا يقرّ للقرابة بشأن في الموضوع، و معني هذا أنه ينزع عن خلافة أبي بکر ثوبها الشرعي الذي ألبسها إياه.

(و الاُخري) أن يناقض نفه فيضلّ ثابتاً علي مبادئه التي أعلنها في السقيفة، و لا يري حقاً للهاشميين و لا امتيازاً لهم في مقاييس الرجال، أو يراه لهم و لکن في غير ذلک الظرف الذي کون يکون معني المعارضة فيه مقابلة حکم قائم و وضع تعاقد عليه الناس.

و اختارت الفئة المسيطرة أن تثبت علي آرائها التي روّجتها في مؤتمر الأنصار و تعترض علي المعارضين بأن مخالفتهم بعد بيعة الناس للخليفة ليست إلّا إحداثاً للفتنة [18] المحرّمة في عرف الإسلام.


و هذا هو الاُسلوب الوقتي الذي اتّخذه الحاکمون للقضاء علي هذا الجانب من المعارضة الهاشمية، و قد ساعدتهم الظروف الإسلامية الخاصّة يومئذٍ علي نجاحه کما سنوضّحه.

غير أنّنا نحسّ و نحن ندرس سياسة الحاکمين بأنّهم انتهجوا منذ اللحظة الاُولي سياسة معينة تجاه آل محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم للقضاء علي الفکرة التي أمدّت الهاشميين بقوّة علي المعارضة کما خنقوا المعارضة نفسها. و نستطيع أن نصف هذه السياسة بأنّها تهدف إلي إلغاء امتياز البيت الهاشمي، و إبعاد أنصاره والمخلصين له عن المرافق الهامّة في جهاز الحکومة الإسلامية يومئذٍ و تجريده عمّا له من الشأن و المقام الرفيع في الذهنية الإسلامية.

و قد يعزّز هذا الرأي عدّه ظواهر تاريخية:

(الاولي) سيره الخليفه و اصحابه مع علي التي بلغت من الشده أنّ عمر هدد بحرق بيته و أنّ کانت فاطمة فيه [19] ، و معني هدا اعلان أنّ فاطمة و غير فاطمة من آلها ليس حرمه تمنعهم عن أنّ يتخذ معهم نفس الطريقه التي سار عليها مع سعد بن عباده حين امر الناس بقتله [20] . و من صور ذلک العنف وصف الخليفه لعلي بانه مرب لکل فتنه و تشبيهه له بام طحال احب الي اهلها اليها البغي [21] ، و قد قال عمر لعلي بکل وضوح: أنّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم


منّا و منکم.

(الثانية) أنّ الخليفة الأوّل لم يشارک شخصاً من الهاشميّين في شأن من شؤون الحکم المهمّة، و لا جعل فيهم والياً علي شبر من المملکة الإسلامية الواسعة مع أنّ نصيب الاُمويّين في ذلک کان عظيماً [22] .

و أنت تفهم بوضوح أنّ هذا وليد سياسة متعمّدة من محاورة وقعت بين عمر و ابن عبّاس أظهر فيه تخوّفه من تولية الثاني حمص؛ لأنّه يخشي إذا صار الهاشميّون ولاة علي الأقطار المملکة الإسلامية أن يموت و هم کذلک فيحدث في أمر الخلافة ما لا يريد [23] .

و نحن إذا عرفنا من رأي عمر أن ظفر ببيتٍ من البيوت الطامحة إلي السلطان بالولاية في الأقطار الإسلامية يهيّؤهم لنَيل الخلافة والمرکز الأعلي، و لاحظنا أنّ الاُمويّين ذوي الألوان السياسية الواضحة کان فيهم ولاة احتلّوا الصدارة في المجالات الإدارية أيام أبي بکر و عمر، و أضفنا إلي ذلک أنّه کان يعلم علي أقل تقدير بأنّ الشوري التي ابتکرها سوف تجعل من شيخ الاُمويّين عثمان خليفة، خرجنا بنتيجة مهمّة و تقدير تاريخي تدلّ علي صحتّه عدّة من الظواهر، و هو أنّ الخليفتين کانا يهيّئان للسلطان الاُموي أسبابه و معدّاته، و هما يعلمان حقّ العلم أنّ إنشاء کيان سياسي من جديد للاُمويين خصوم بني هاشم القدامي معناه تقديم المنافس للهاشميّين في


زعيم اُمويّ، و تطوّر المعاوضة الفردية للبيت الهاشمي إلي معارضة بيت مستعد للنزاع والمنافسة أکمل استعداد.

و من شأن هذه المعارضة أنّها تطول و تتّسع لأنّها ليست متمثّلة في شخص بل في بيت کبير، و نستطيع أن نفهم من هذا أنّ سياسة الصدّيق و عمر هي التي وضعت الحجر الأساسي لملک بني اُميّة حتّي يضمنا بذلک المنافس لعليّ و آل عليّ علي طول الخطّ [24] .

(الثالثة) عزل الخليفة لخالد بن سعيد بن العاص عن قيادة الجيش الذي وجّهه لفتح الشام بعد أن أسندها إليه لا لشي ء إلّا لأنّ عمر نبّهه إلي نزعته الهاشمية و ميله إلي آل محمد صلي اللَّه عليه و آله و سلم، و ذکّره بموقفه تجاهخم بعد وفاة رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم [25] .

ولو کنّا نريد التوسّع في دراسة هذه الناحية لعطفنا علي هذه الشواهد قصّة الشوري العمرية [26] التي نزل فيها عمر (رضي اللَّه تعالي عنه) بعليّ عليه السلام إلي صفّ أشخاصٍ خمسة لا يکافئون عليّاً في شي ء من معانيه المحمّدية، و قد کان الزبير و هو أحد الخمسة يري يوم توفّي رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم أنّ الخلافة حقّ شرعي لعليّ، فلاحظ کيف انتزع عمر هذا الرأي من عقله و أعدّه للمنافسة بعد حين؛ إذ جعله أحد الستّة الذين فيهم عليّ.


و إذن فقد کانت الفئة الحاکمة تحاول أن تساوي بين بني هاشم و سائر الناس و ترتفع برسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم عن الاختصاص بهم لتنتزع بذلک الفکرة التي کانت تزوّد الهاشميين بطاقة علي المعارضة. و لئن اطمأن الحاکمون إلي أنّ عليّاً لا يثور عليهم في تلک الساعة الحرجة علي الإسلام، فهم لا يأمنون من انتفاضه بعد ذلک في کل حين، و من الطبيعي حينئذٍ أن يسارعوا إلي الإجهاز علي کلتا قوّتيه المادّية والمعنوية ما دامت الهدنة قائمة قبل أن يسبقهم إلي حرب أکول.

و من المعقول بعد هذا أن يقف الخليفة موقفة التاريخي المعروف من الزهراء في قضية فدک، فهو موقف تلاقي فيه الغرضان ترکّز علي الخطّين الأساسيّين لسياسته؛ لأنّ الدواعي التي بعثته إلي انتزاع فدک کانت تدعوه إلي الاستمرار علي تلک الخطّة ليسلب بذلک من خصمه الثروة التي کانت سلاحاً قويّاً في عرف الحاکمين يومذاک، و يعزّز بها سلطانه، و إلّا فما الذي کان يمنعه عن تسليم فدک للزهراء بعد أن أعطته الوعد القاطع بأن تصرف منتوجاتها في سبيل الخير و وجوه المصلحة العامة؟! [27] إلّا أنّه خاف منها أن تفسّر وعدها بما يتّفق مع صرفها لغلّات فدک في المجالات السياسية. و ما الذي صدّه عن إرضاء فاطمة بالتنازل لها عن حصّته و نصيب الصحابة إذا صحّ أنّ فدک مُلک للمسلمين سوي أنّه أراد أن يقوّي بها خلافته؟

و أيضاً فإنّنا إذا عرفنا أنّ الزهراء کانت سنداً قويّاً لقرينها في دعوته إلي نفسه، و دليلاً يحتج به أنصار الإمام علي أحقيّته بالأمر، نستوضح أنّ الخليفة


کان موفّقاً کلّ التوفيق في موقفه تجاه دعوي الزهراء للنحلة، و جارياً علي المنهج السياسي الذي کان يفرضه عليه الظرف الدقيق؛ إذ اغنتم الفرصة المناسبة لإفهام المسلمين بصورة لبقة، و علي اُسلوب غير مباشر بأنّ فاطمة امرأة من النساء و لا يصحّ أن تؤخذ آراؤها و دعاويها دليلاً في مسألة بسيطة کفدک فضلاً عن موضوع کالخلافة، و أنّها إذا کانت تطلب أرضاً ليس لها بحقّ فمن الممکن أن تطلب [28] لقرينها المملکة الإسلامية کلّها و ليس له فيها حقّ.

و نخرج من البحث بنتيجة و هي أنّ تأميم الصدِّيق لفدک يمکن تفسيره:

1- بأنّ الظرف الاقتصادي دعي إلي ذلک.

2- بأنّ أبابکر خشي أن يصرف عليّ ثروة قرينته في سبيل التوصّل إلي السلطان.

و إنّ موقفه من دعواي الزهراء بعد ذلک و استبساله في رفضها قد يکون مردّه إلي هذين السببين:

1- إلي مشاعر عاطفية کانت تنطوي عليها نفس الخليفة رضي اللَّه عنه عرضنا لجملة من أسبابها فيما سبق.

2- وحدة سياسية عامّة بني عليها الصدِّيق سيرته مع الهاشميين و قد تبيّناها من ظواهر الحکم يومئذٍ.



پاورقي

[1] راجع: السقيفة والخلافة/ عبدالفتاح عبدالمقصود: 264.

[2] راجع: تاريخ الطبري 2: 243.

[3] المصدر السابق 2: 237، قال: «حدّثني محمّد بن عثمان بن صفوان الثقفي قال: حدّثنا أبوقتيبة، قال: حدّثنا مالک- يعني ابن مغول- عن ابن الحرّ قال: قال أبوسفيان لعليّ: ما بالُ هذا الأمر في أقلّ حيٍّ من قريش! واللَّه لو شئت لأملأنّها عليه خيلاً و رجالاً! قال: فقال عليٌّ: يا أباسفيان، طالما عاديتَ الإسلام و أهله...».

[4] تاريخ الطبري 2: 233.

[5] المصدر نفسه 2: 243، قوله الخليفة الأوّل: «من ذا ينازعنا سلطان محمّد و إمارته، و نحن أولياؤه و عشيرته إلّا مُدِلٍّ بباطلٍ أو متجانفٍ لإثمٍ...».

[6] راجع شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 1: 130 طبعة القاهرة- مصطفي البابي. [الشهيد].

[7] قد نستطيع أن نجيب في ضوء هذه القصة عمّا عرض لنا من سؤال في بداية هذا الفصل عن موقف الخليفتين لو قُدّر لهما أن يقفا موقف عليّ الذي کان يفرض عليه أن يغري کثيراً من أمثال أبي سفيان بالمال والجاه. [الشهيد]

[8] راجع تاريخ الطبري 2: 237، أخرج عن ثابت قال: لمّا استخلف أبوبکر قال أبوسفيان: ما لنا و لأبي فصيل، إنّما هي بنو عبدمناف!

قال: فقيل له: إنّه قد ولّي ابنک، قال- أي أبوسفيان-: وَصَلَتْه رَحِم..

[9] شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 6: 5.

[10] المصدر نفسه 6: 5.

[11] شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 1: 130، طبعة مصطفي البابي الحلبي- القاهرة.

[12] شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 6: 21، روي الزبير بن بکار، قال: روي محمّد بن إسحاق أنّ أبابکر لمّا بويع افتخرت تيم بن مرّة، قال: و کان عامّة المهاجرين و جلّ الأنصار لا يشکّون أنّ علياً هو صاحب الأمر بعد رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم.

[13] راجع: تاريخ الطبري 2: 237 طبعة المکتبة العلمية. [الشهيد].

[14] شرح نهج البلاغه/ ابن أبي الحديد 1: 133. [الشهيد]، الطبقات الکبري/ ابن سعد 3: 182.

[15] يقصد من نصيب الساعي و هو أبوسفيان کما في الرواية التي أوردها ابن أبي الحديد في شرح النهج: 1: 130 طبعة القاهرة- مصطفي البابي الحلبي.

[16] شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 274، «و قد رُوي أنّ أبابکر لمّا شهد أميرالمؤمنين عليه السلام (بفدک) کتبَ بتسليمها إليها- إلي فاطمة- فاعترض عمر قضيّته، و خرّق ما کتبه...»، السيرة الحلبية 3: 391.

[17] جري أکثر الخلفاء بالأخصّ الاُمويّين والعبّاسيّين علي تطبيق نظام المصادرات أو ما يعرف في عصرنا (بالتأميم) أو الاستيلاء علي الأموال المنقولة و غير المنقولة بأمرٍ من الحاکم؛ بعضها لأغراض اقتصادية- التأميم- و بعضها بسبب مخالفة من صودرت أموالهم للدولة.

راجع بحثاً مفصّلاً عن المصادرات في التاريخ/ الدکتور محمّد سعيد رضا/ مجلة کلية الآداب- جامعة البصرة- العدد 15/ 1978.

[18] تاريخ الطبري 2: 234- 235 أحداث قصة السقيفة، و راجعها في الکامل/ ابن الأثير.

[19] تاريخ الطبري 2: 233، العقد الفريد / ابن عبدريه 4: 242 و ما بعدها، شرح ابن ابي الحديد 16: 47- 48.

[20] راجع تاريخ الطبري 2: 244 في قصه السقيفه:... فقال ناس من اصحاب سعد: «اتقوا سعدا لا تطووه، فقال عمر: اقتلوه قتله اللَّه، ثم قام علي راسه فقال: لقد هممت أنّ اطاک حتي تندر عضدک...».

[21] شرح نهج البلاغه 16: 215.

[22] تاريخ الطبري 2: 337، ثم تولية الخليفة الأوّل معاوية بن أبي سفيان و اُقرّت الولاية من قِبل الخليفة الثاني.

[23] راجع مروج الذهب علي هامش الجزء الخامس من تاريخ ابن الأثير ص 135. [الشهيد]. تاريخ الطبري 2: 578، طبعة دارالکتب العلمية.

[24] و هذا هو السرّ السياسي الذي غفل عنه الباحثون في قصّة الشوري. و قد جاء عن عمر أنّه هدد الستّة الذين أوکل إليهم الأمر بمعاوية، و تنبأ لهم بأنّه سيملک الأمر.. راجع شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 1: 62، و هذا إن دلّ علي فراسته، فهو علي لون سياسته أدلّ. [الشهيد].

[25] شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 1: 135. [الشهيد].

[26] راجع في قصة الستّة الشوري- تاريخ الطبري 2: 580- 581.

[27] شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 4: 80 [الشهيد] طبعة قديمة.

[28] شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 284، الطبعة المحققة/ أبوالفضل إبراهيم، و فيه جواب مدرّس المدرسة الغربية عليّ بن الفارقي بهذا المعني عندما سأله ابن أبي الحديد... و قد عقّب عليه بأنّه کلام صحيح.