بازگشت

ابعاد قضية فدك السياسة




هذه هي الثورة الفاطمية في لونها العاطفي و هو لون من عدّة ألوان أوضحها و أجلاها اللون السياسي الغالب علي أساليبها و أطوارها.

و أنا حين أقول ذلک لا أعني بالسياسة مفهومها الرائج في أذهان الناس هذا الويم المرکّز علي الالتواء و الافتراء، و إنّما أقصد بها مفهومها الحقيقي الذي لا التواء فيه. فالممعن في دراسة خطوات النزاع و تطوّراته و الأشکال التي اتّخذها لا يفهم منه ما يفهم من قضية مطالبة بأرض، بل يتجلّي له منها مفهوم أوسع من ذلک ينطوي علي غرض طموح يبعث إلي الثورة و يهدف إلي استرداد عرش مسلوب و تاج ضائع و مجد عظيم و تعديل اُمّة انقلبت علي أعقابها [1] .


و علي هذا کانت فدک معنيً رمزيّاً يرمز إلي المعني العظيم و لا يعني تلک الأرض الحجازية المسلوبة، و هذه الرمزية التي اکتسبها فدک هي التي ارتفعت بالمنازعة من مخاصمة عادية منکمشة في اُفقها، محدودة في دائرتها إلي ثورة واسعة النطاق رحيبة الاُفق.

اُدرس ما شئت من المستندات التاريخية الثابتة للمسألة، فهل تري نزاعاً ماديّاً، أو تري اختلافاً حول فدک بمعناها المحدود و واقعها الضيّق، أو تري تسابقاً علي غلّات أرض مهما صعد بها المبالغون وارتفعوا؟ فليست شيئاً يحسب له المتنازعون حساباً.

کلّا! بل هي الثورة علي اُسس الحکم، والصرخة التي أرادت فاطمة أن تقتلع بها الحجر الأساسي الذي بُني عليه التاريخ بعد يوم السقيفة.

و يکفينا لإثبات ذلک أن نلقي نظرة علي الخطبة التي خطبتها الزهراء في المسجد أمام الخليفة و بين يدي الجمع المحتشد من المهاجرين و الأنصار، فإنّها دارت أکثر ما دارت حول امتداح عليّ والثناء علي مواقفه الخالدة في الإسلام و تسجيل حقّ أهل البيت الذين وصفتهم بأنّهم الوسيلة إلي اللَّه في خلقه و خاصّته و محلّ قدسه و حجّته في غيبه، و ورثة أنبيائه في


الخلافة والحکم. و إلفات المسلمين إلي حظّهم العاثر و اختيارهم المرتجل و انقلابهم علي أعقابهم، و ورودهم غير شربهم، و إسنادهم الأمر إلي غير أهله، والفتنة [2] التي سقطوا فيها، والدواعي التي دعتهم إلي ترک الکتاب و مخالفته فيما يحکم يه في موضوع الخلافة و الإمامة.

فالمسألة إذن ليست مسألة ميراث و نِحلة إلّا بالمقدار الذي يتّصل بموضوع السياسة العليا، و ليست مطالبة بعقار أو دار، بل هي في نظر الزهراء «مسألة إسلام و کفر، و مسألة إيمان و نفاق، و مسألة نصّ و شوري» [3] .

و کذلک نري هذا النَفَس السياسي الرفيع في حديثها مع نساء المهاجرين و الأنصار، إذ قالت فيما قالت: «أين زحزحوها عن رواسي الرسالة، و قواعد النبوّة، و مهبط الروح الأمين و الطبين بأمر الدنيا و الدين ألا ذلک هو الخسران المبين، و ما الذي نقموا من أبي الحسن، نقموا و اللَّه نکير سيفه، و شدّة وطأته، و نکال وقعته، و تنمّره في ذات اللَّه، و تاللَّه لو تکافؤوا عن زمام نبذه إليه رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم لا عتلقه و سار إليهم سيراً سجحاً لا تُکلم حشاشه، و لا يتعتع راکبه [4] ، و لأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً تطفح


فضفاضه، و لأصدرهم بطاناً قد تحيّر بهم الرأي غير متحلّ بطائل إلّا بغمر الناهل و ردعه سورة الساغب، ولفُتحت عليهم برکات من السماء والأرض، و سيأخذهم اللَّه بما کانوا يکسبون، ألا هلمّ فاستمع و ما عشت أراک الدهر عجباً و إن تعجب فقد أعجبک الحادث إلي أيّ لجأ استندوا و بأيّ عروة تمسّکوا، لبئس المولي و لبئس العشير، و لبئس للظالمين بدلاً. استبدلوا واللَّه الذنابي بالقوادم والعجز بالکاهل فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً، ألا أنّهم هم المفسدون و لکن لا يشعرون، و يحهم (أَفَمَن يَهْدِي إِلَي الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَي فَمَا لَکُمْ کَيْفَ تَحْکُمُونَ) [5] ».

و لم يؤثر عن نساء النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم أنّهن خاصمن أبابکر في شي ء من ميراثهن، أکنّ أزهد من الزهراء في متاع الدنيا، و أقرب إلي ذوق أبيها في الحياة؟ أو أنّهنّ اشتغلن بمصيبة رسول اللَّه و لم تشتغل بها بضعته، أو أنّ الظروف السياسة هي التي فرّقت بينهنّ فأقامت من الزهراء معارضة شديدة، و منازعة خطرة دون نسوة النبيّ اللّاتي لم تزعجهنّ أوضاع الحکم.

و أکبر الظنّ أنّ الصدّيقة کانت تجد في شيعة قرينها، و صفوة أصحابه الذين لم يکونوا يشکّون في صدقها من يعطف شهادته علي شهادة عليّ و تکتمل بذلک البيّنة عند الخليفة. أفلا يفيدنا هذا أنّ الهدف الأعلي لفاطمة الذي کانوا يعرفونه جيّداً ليس هو إثبات النِحلة أو الميراث، بل القضاء علي نتائج السقيفة [6] ؟ و هو لا يحصل بإقاةه البيّنة في موضوع فدک، بل بأن


تقدّم البيّنة لدي الناس جميعاً علي أنّهم ضلّوا سواء السبيل [7] . و هذا ما کانت تريد أن تقدّمه الحوراء في خطّتها المناضلة.

و لنستمع إلي کلام الخليفة بعد أن انتهت الزهراء من خطبتها و خرجت من المسجد، فصعد المنبر و قال: «أيّها الناس ما هذه الرِّعة إلي کلّ قالة! أين کانت هذه الأماني في عهد رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم. ألا من سمع فليقل، و من شهد فليتکلّم، إنّما هو ثُعالةٌ شهيده ذنبه، مُرِبٌّ لکلّ فتنة [هو الذي يقول: کرّوها جَذَعة بعد ما هرمت، يستعينون بالضعفة، و يستنصرون بالنساء]، کاُمّ طحال أحبّ أهلها إليها البغي. ألا إنّي لو أشاء أن أقول لقلت و لو قلت لبُحتُ، إنّي ساکت ما ترکت»، ثمّ التفت إلي الأنصار و قال: «قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائکم و أحقّ من لزم عهد رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم أنتم، فقد جاءکم فآويتم و نصرتم، ألا إنّي لست باسطاً يداً و لا لساناً علي من لم يستحقّ ذلک [منّا]» [8] .

و هذا الکلام يکشف لنا عن جانب من شخصيّة الخليفة، و يلقي ضوءاً علي منازعة الزهراء له، والذي يهمّنا الآن ما يوضّحه من أمر هذه المنازعة


و انطباعات الخليفة عنها، فإنّه فَهِم حقّ الفهم أنّ احتجاج الزهراء لم يکن حول الميراث أو النِحلة، و إنّما کان حرباً سياسيّة کما نسمّيها اليوم و تظلّماً لقرينها العظيم الذي شاء الخليفة و أصحابه أن يبعدوه عن المقام الطبيعي له في دنيا الإسلام، فلم يتکلّم إلّا عن عليّ فوصفه بأنّه ثعالة و أنّه مربّ لکلّ فتنة، و أنّه کاُمِّ طِحال، و أنّ فاطمة ذنبه التابع له، و لم يذکر عن الميراث قليلاً أو کثيراً.

و لنلاحط ما جاءت به الرواية في صحاح السُنّة من أنّ عليّاً والعبّاس کانا يتنازعان في فدک في أيّام عمر بن الخطّاب، فکان علي يقول إنّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم جعلها في حياته لفاطمة، و کان العبّاس يأبي ذلک و يقول هي ملک رسول اللَّه و أنا وراثه، و يتخاصمان إلي عمر، فيأبي أن يحکم بينهما و يقول: «أنتما أعرف بشأنکما أمّا أنا فقد سلّمتها إليکما» [9] .

فقد نفهم من هذا الحديث إذا کان صحيحاً أنّ حکم الخليفة کان سياسيّاً موقّتاً و إنّ موقفه کان ضرورة من ضرورات الحکم في تلک الساعة الحرجة، و لا فلِمَ أهملَ عمر بن الخطّاب رواية الخليفة و طرحها جانباً و سلّم فدک إلي العبّاس و عليّ، و موقفه منهما يدلّ علي أنّه سلّم فدک إليهما علي أساس أنّها ميراث رسول اللَّه لا علي وجه التوکيل، إذ لو کان علي هذا


الوجه لما صحّ لعليّ والعبّاس أن يتنازعا في أنّ فدک هل هي نحلة من رسول اللَّه لفاطمة أو ترکة من ترکاته التي يستحقّها ورثته؟ و ما أثر هذا النزاع لو فُرض أنّها في رأي الخليفة مال للمسلمين و قد وکّلهما في القيام عليه؟ و لفضً عمر النزاع و عرّفهما أنّه لا يري فدک مالاً موروثاً و لا من أملاک فاطمة، و إنّما أو کل أمرها إليهما لينوبا عنه برعايتها و تعاهدها، کما أنّ عدم حکمه بفدک لعلي وحده معناه أنّه لم يکن واثقاً بنحلة رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم فدک لفاطمة فليس من وجه لتسليمها إلي عليّ والعبّاس إلّا الإرث.

و إذن ففي المسألة تقديران:

(أحدهما) أنّ عمر کان يتّهم الخليفة بوضع الحديث في نفي الإرث [10] .

(و الآخر) أنّه تأوّله و فهم منه معنيً لا ينفي التوريث و لکن لم يذکر تأويله، و لم يناقش به أبابکر حينما حدّث به وسواء أصحّ هذا أو ذاک، فالجانب السياسي في المسألة ظاهر، و إلّا فلماذا يتّهم عمر الخليفة بوضع الحديث إذا لم يکن في ذلک ما يتّصل بسياسة الحکم يومئذٍ، و لماذا يخفي تأويله و تفسيره، و هو الذي لم يتحرّج عن إبداء مخالفته للنبيّ أو الخليفة الأوّل فيما اعترضهما من مسائل.

و إذا عرفنا أنّ الزهراء نازعت في أمر الميراث بعد استيلاء الحزب الحاکم عليه، لأنّ الناس لم يعتادوا أن يستأذنوا الخليفة في قبض مواريثهم أو في تسليم المواريث إلي أهلها، فلم تکن فاطمة في حاجة إلي مراجعة


الخليفة، و لم تکن لتأخذ رأيه و هو الظالم [11] المنتزي علي الحکم في رأيها، فالمطالبة بالميراث لا بُدّ أنّها کانت صديً لما قام به الخليفة من تأميمه للترکة علي ما نقول اليوم [12] ، و الاستيلاء عليها.

(أقول): إذا عرفنا هذا و إنّ الزهراء لم تطالب بحقوها قبل أن تُنتزع منها؛ تجلّي لدينا أنّ ظرف المطالبة کان مشجّعاً کلّ التشجيع للمعارضين علي أن يغتنموا مسألة الميراث مادة خصبة لمقاومة الحزب الحاکم علي اُسلوب سلميّ کانت تفرضه المصالح العليا يومئذ، و اتّهامه بالغصب والتلاعب بقواعد الشريعة والاستخفاف بکرامة القانون.


پاورقي

[1] إشارة إلي قوله تعالي: (وَ مَا مُحَمَّدُ إلَّا رَسُولُ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُولُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَي أَعْقَابِکُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلَي عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاکِرِينَ) آل عمران/ 144.

و راجع الرواية التي تُشير إلي ارتداد الناس و انکفائهم عن الإسلام حديث الحوض المشهور، قوله صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «أنا فرطکم علي الحوض فيؤتي برجالٍ أعرفهم فيُمنعون منّي، فأقول أصحابي؛ فيقال: إنّک لا تدري ما أحدثوا بعدک، فأقول: سُحقاً سُحقاً لمن بدّل بعدي...»، صحيح البخاري 8: 86 کتاب الفتن، الکشّاف/ الزمخشري 4: 811، تاريخ الطبري 2: 245.

[2] راجع نصوص السقيفة في تاريخ الطبري 2: 235 و ما بعدها، و فيها: «أنّ بيعة أبي بکر بکرفلتة...».

[3] هذا بلحاظ المنظور الفاطمي للقضية برمّتها و في أبعادها، و قد عبّرت عن ذلک في خطبتها قائلة: إنّما زعمتهم خوف الفتنة ثمّ تلت قوله تعالي: (أَلَا في الفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطةٌ بِالکَافِرِينَ) التوبة/ 49، و راجع المناقشة الوافية الشافية لمسألة (النصّ والشوري) في نشأة التشيّع والشيعة/ الإمام السيّد الشهيد الصدر- بتحقيق الدکتور عبدالجبار شرارة.

[4] تاريخ الطبري 2: 580، قول الخليفة الثاني في قصة الشوري... قالوا: يا أميرالمؤمنين لو عهدت عهداً! فقال: قد کنت أجمعت بعد مقالتي لکم أن أنظر فاُولّي رجلاً أمرکم، هو أحراکم أن يحملکم علي الحقّ. و أشار إلي عليّ...». و راجع أنساب الأشراف/ البلاذري 2: 214.

[5] يونس/ 35.

[6] راجع: شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 236، و يظهر أنّ الخلافة فطنت إلي هذا الأمر، فحالت دونه، و يظهر من المحاورة التي جرت بين الخليفة الثاني و ابن عبّاس جليّة الموقف، جاء في تاريخ الطبري 2: 578... قال عمر: يا ابن عبّاس أتدري ما منع قومکم منهم- من بني هاشم- بعد محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم؟ قال ابن عبّاس: فکرهت أن اُجيبه، فقلت: إن لم أکن أدري فأميرالمؤمنين يدريني، فقال عمر: کرهوا أن يجمعوا لکم النبوّة و الخلافة فتبجّحوا علي قومکم بَجَحاً بَجَحاً، فاختارت قريش لنفسها فأصابت و وفقّت. فقلتُ: يا أميرالمومنين إن تأذن لي في الکلام... فقال: تکلّم يا ابن عبّاس، فقلتُ: أمّا قولک: اختارت قريش فأصابت... فلو أنّ قريشاً اختارت لأنفسها حيث اختار اللَّه عزّ و جلّ لکان لها الصواب بيدها غير مردود... أمّا قولک: کرهوا أن تجتمع النبوّة و الخلافة فإنّ اللَّه وصف قوماً بالکراهية فقال: (ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ کَرِهُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) سورة محمّد/ 9.

[7] شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 236.

[8] شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 214- 215.

[9] شرح نهج البلاغة 16: 221، و لاحظ الروايات التي تؤکّد أن عليّ بن أبي طالب وصيُّ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و وارثه و خليفته والوليّ ممن بعده.

راجع مثلاً: تاريخ دمشق/ ابن عساکر الشافعي 3: 5 ح 1021، 1022 قول الرسول الأعظم صلي اللَّه عليه و آله و سلم: «لکل نبيّ وصيّ و وارث و إنّ عليّاً وصييّ و وارثي» و راجع حديث الدار المشهور في تاريخ الطبري 3: 218، ط 1، الحسينية بمصر، و تفسير الخازن 3: 371- طبعة دارالمعرفة- في تفسير قوله تعالي: (وَ أَنذِر عَشِيرتک الأَقْرَبِينَ...)، مسند أحمد بن حنبل 2: 352 ح 1371- طبعة دارالمعارف، بسند صحيح.

[10] إشارة إلي الرواية التي انفرد بها الخليفة الأوّل، و هي قوله: قال رسول اللَّه: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث، ما ترکناه صدقة...»، راجع: الصواعق المحرقة: 34 شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 223.

[11] راجع المحاورة بين الخليفة الثاني و بين عليّ بن أبي طالب والعبّاس بن عبدالمطّلب شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد 16: 222.

[12] أصبح مصطلح التأميم شائعاً، و هو يعني المصادرة والاستيلاء علي المِلک الخاص من قِبل الدولة.