بازگشت

بدر و فرحة الزهراء




فکانت هي فاتحة النصر المبين الذي اضاء صفحات تاريخ الاسلام بضياء الحرية «انتصار الحق علي الباطل» و هي النصر لراية الدين الجديد، حينما جازت محنتها «الفئة القليلة فغلبت الفئة الکثيرة بأذن اللَّه».

.. اذ بدا الافق البعيد، الرائع الطلعة في زرقته من وراء ستار رقيق کالسنا، يبدو عميقاً عميقاً.. بينما اخذ ينتشر في الجو عبق البخور، و شذي الازهار المتهالک علي بيت الوحي.

و کأني بفاطمة تجلس امام هذا المنظر تتطلع في السماء.. تشکر اللَّه علي آلائه،و فرحة النصر قد علت ملامحها و اطياف بسمة خفية اخذت تتسرب الي فؤادها.

فهي الآن تري الاسلام مؤزراً بنصر من اللَّه، و تري النبي المهاجر الذي تحمل


کل مشقات الرسالة حبوراً بهذه النصر العظيم.. فکانت تتمني لو أن خديجة و اباطالب هم من الاحياء؛ کي تلمس منهم تلک الفرحة التي منَّ الله بها علي هذا الدين. فمعرکة بدر قد ادخلت السرور الي قلب الزهراء.

و ها هي تنظر الي الانجم الزواهر و تتمعن ببريقها، فتطفو عليها سعادة کبري نابعة من اوصال روحها.

فقد فشل عبدة الاوثان فشلاً ذريعاً، و لُقنوا درساً لن ينسوه حينما اختطف علي رؤوس شياطينهم.. و رمي بها اشلاءاً متناثرة.

.. اجل تراجع الباطل امام الاسلام، و توج دين محمد صلي اللَّه عليه و آله و سلم بالنصره والعزة من رب العالمين بعد ان تساقطت تيجانهم المزيفة الخاوية.

.. وها انت سيدتي تستقبلين هذا الليل الذي يطوي معه ذکريات الماضي المنصرم يوم مات ابوطالب و خديجة، و يوم هاجر عنک ابوک مستخفياً بين رمال القفار.. و انت الان سارحة بتلک الخواطر التي انتهت بهذا النصر المؤازر الذي اعز الاسلام و قائدة.

.. وها انت اليوم تستقبلين هذه الفرحة، بقلب ملؤه السعادة والحبور اذ النجوم تسقط بضوئها الرائع علي بقعتک المبارکة.

تلک البقعة التي افترشت بها البتول [1] مصلاها وسط محرابها الازهر لتقف امام ربها تصلي النافلة و هي تدعوه ان يثبت اقدام المسلمين..

ثم تبدأ الزهور بارسال عبقها الذکي نحو الزهراء.. فيمر عليها الليل محفوفاً بالسکون والخشوع لله سبحانه.. و ما ان ينقضي حتي يحل الفجر الصبوح، و فاطمة ما تزال بين راکعة و ساجدة، الي ان تورّمت قدماها.


.. فيتسرب الي روحها صوت بلال الرقيق و هو يؤذن.. فتقوم مرة اُخري و کأنها زهرة اقاح تتفتح علي رذاذ قطر الندي في فجرها المبکر نشطة مبتهجة.

هکذا کانت البتول.. بتول زمانها.

ثم ينقشع الفجر بشمسه المضيئة.. و قد ارتدي حلتهُ المشرقة المنيرة، و يقبل الاب علي فلذته يحمل معه تلک الاحاسيس والعواطف التي تطوي کيانه تجاه زهرائه.. اذ لم تفارقه تلک الابتسامة العذوبة.. و هو يبادرها بالسلام.. فيقبل يديها.. و تقبل يديه [2] فيفيض محياها بشمس نور جمالها.. و هي قابضة علي يديه الشريفتين تلثمهما تقبيلاً و ترسلهما علي خديها المتوردتين بنورها الازهر، اذ انها تعبر عن اشتياقها لهذا القلب الذي لا يفتر حبه لها ابداً ابداً.

.. فلقد تربت بنت الهدي في حجر خديجة الدافي.. فما افاء عليها ذلک الحجر و الدف الا ضئيلا- فخطف القدر منها امها الحنون- فاخذها سيد المرسلين و کمال الدين.. فزقها من علمه و حکمته و حلمه و ايمانه.. فتغذت من روحه التي تنهل عن خالقه.. و ترعرعت وسط احضان بحر العلوم والجود والکرم و الکبرياء.

فمشت علي دربه الملئ بالاشواک و الايثار، و کلها رضاً و سعادة ما دامت بجنبه ترعاه بماء عيونها، و تغدق عليه کمثل اُم تتحمل کل عسير من اجل سعادة ولدها.

.. و هکذا کبرتِ سيدتي و مولاتي.. فصرت منهلاً من مناهل العلم والفقه والحکمة فتبؤأت مقاماً محموداً، عند مليک مقتدر، في اعلي عليين [3] .. فانت الام


والابنة لهذا النبي العظيم.

فنشرت شراعک النوراني سيدتي علي صفحات التاريخ، لتکتب حروف ايثارک و صبرک من اجل الدين الجديد، الذي حوربَ ليُقتل حقه فأسندتيه انت برعايتک للنبي تريحين عنه کل المشقات، ليسمو الاسلام عالياً في کل الدنيا.



پاورقي

[1] (ابن الاثير) في النهاية في مادة (بتل) قال سميت فاطمة (البتول) لانقطاعها عن نساء زمانها فضلاً و ديناً و حسباً (و قيل) لانقطاعها عن الدنيا الي اللَّه تعالي.

(و قال) عبيدة الهروي (في الغربيين) سميت فاطمة بتولاً لانها (بتلت) عن النظير.

[2] صحيح الترمذي ج 2 ص 319، مستدرک الصحيحين ج 3 ص 154، الحاکم في مستدرکه ج 4 ص 172، أبوداود ج 3 ص 223، الادب المفرد ص 136، أحمد بن حنبل ج 3 ص 164، صحيح مسلم في فضائل الصحابة، البخاري ص 141، فتح الباري ج 9 ص 200، و غيرهم.

[3] مستدرک الصحيحين ج 3 ص 185، ذخائر العقبي ص 44، الاستيعاب ج 2 ص 720، مسند احمد ج 1 ص 293، الهيثمي ج 9 ص 223، کنزالعمال ج 6 ص 217، البغدادي ج 4 ص 391، الترمذي ج 2 ص 301، تفسير ابن جرير ج 3 ص 180، أسدالغابة ج 5 ص 427، و غيرهم.