بازگشت

اللقاء الاخير




ثم اخذت اللحظات الاخيرة تشرف علي الانتهاء، فأحتضنت الام ابنتها و ضمتها الي صدرها کالزهرة التي تضم اوراقها، و تنام هي معانقة سوقها تنتظر نسيم الصباح.

ثم اُجهشت الام و ابنتها بالبکاء حتي نال منهما الجهد، فاسترسلت خديجة تنظر الي ما حولها و انفاسها بدت تبطي ء قليلاً ثم تسرع، لکن شفتاها المتوردتان ظلتا تتمتمان بذکر اللَّه و کأنها زهرة اقاح ذابلة، امام نسيمات الفجر العليل.

ثم قالت اخر کلمات لها و هي تحتضر ضاغطة علي ايدي زهرائها و نبراتها تتموج، و سطعت علي رأسها انوار عظيمة ذات هيبة و جمال.. ثم انفرجت شفتاها عن آخر ابتسامة لها و هي تسلم و تدعو.. فأسبلت يديها من بين يدي ابنتها.

التفتت فاطمة نحو ابيها و هي تنظر في عينيه، جامدة، ساکنة ثم صرخت صرخة خرجت من احشائها (اُماه)، و ارتمت علي صدر الام التي ظلت ابتسامتها الرائعة مرسومة علي ثغرها الي آخر لحظات الوداع ثم اخذت تلثمها، و ظلت راکعة امامها تصرخ و تبکي.

عند ذلک فتحت خديجة عينيها منتفضة، کأنها نسيت ان تقول امراً مهماً، والقت نظرة ابتسام ممزوجة بالحزن، فتحدرت من مقلتيها آخر دمعة، و حسبي بها لؤلؤاً منثوراً.. و ظلت نظراتها واقفة علي ابنتها تغمرها بالحب والحنان فهذه هي آخر نظرة القتها خديجة علي فاطمة، کانت هي آخر عهدها بالحياة، ففاضت روحها الطاهرة الي حيث بارئها.

.. ضج من کان حول خيمة أُم المؤمنين بالبکاء والنحيب، و علت اصوات النساء و هي نادبة خديجة التي ما بخلت حتي بروحها الي آخر رمق فيها، من اجل عزة هذا الدين.


فساعد اللَّه قلبک سيدتي، و انت ترين عظم المصاب، الذي فدح الاسلام.

فهبت رياح شديدة، و عوت عاصفة، کذئب جائع، ثم اخذت السحب السوداء الکثيفة، تَحجب السماء و زرقتها، و تنشر غبرة لفعتها الاحزان تلفيعا، (واحسرتاه عليک يا خديجة العطاء والخير والايثار).

.. و من هناک و ليس ببعيد، يحفر قبر المؤمنة و رافق الجو غبار مصحوب بذرات الثري، التي تعصف بها الريح من هنا و هناک، و ما کان للنبي المفجوع ان يترک زوجته، إلّا أن يجلس بقربها و هي مسجاة ميتة و لسانه يرتل ما تيسر من القرآن الکريم. حتي انزلها لحدها، ثم استعبر بعد ذلک لسانه الشريف، في حين دموعه تجري علي خديه، فقال:

(اللهم اشهد إنها جاهدت إلي الرمق الأخير، و ما اغضبتني يوماً.. و اول من آمن بي بعد أن کذبني الناس، و أوّل مَن اعطت بعدما منعوني).

.. ثم حثي التراب علي جسدها الطاهر الذي کانت الحياة تنبض فيه متيمماً بذکر اللَّه..

فهنيئاً لک الجنة، والسلام عليک يوم ولدت، و يوم مت، و يوم تبعثين حية. (يا حبيبة الاسلام).

أجل سيدتي اُهيل الثري علي عيني اُمک التي ما فارقتها العبرات و الدموع و هي محدقة فيک و کأني سيدتي اشهد ذلک المنظر؛ و کأن خيال عظيم يشع منه نور فائض يتلألأ، فوق صفحة قبر خديجة کأنه صار يلتهب و يضطرم کجمرة من الحزن في افئدة الموتورين.. و وئيداً وئيداً أخذ يهبط من عليائه.. عند ذلک بدأ يعظم نوره، کلما ازداد هبوطه، حتي اذا لم يبق بينه و بين الارض ميل أو بعض ميل انتفض انتفاضاً شديداً.

بلي أنه ملک من ملائکة السماء هبط بنور اللَّه، و جلاله ليضم إليه خديجة، فيؤنس وحشتها و يضي ء قبرها بعدما تعالي منه نور رداء رسول اللَّه من بين سقوفه.