بازگشت

اما حفظ رحمة زوجة ايوب




فقد مدحها القرآن بهذه الصفة و هي «الحفظ»، و للحفظ ثلاث معان:

الأول: أن يحفظها الله.

الثاني: حفظها زوجها أيوب.

الثالث: حفظها نفسها.

و يمکن أن يقال: أن حفظ أيوب عليه السلام من الشدائد کان من حفظ الله سبحانه،أي أن الله حفظ أيوب باطنا و حفظته رحمة ظاهرا و لم تقصر في خدمته و ملازمته، و إذا حفظ الله أحدا من الشرور و المفاسد الدنيوية لا بد أن يتخلق بالأخلاق الإلهية، و الخلق الحسن في المرأة هو حسن التبعل و المودة و الرحمة للزوج، قال


تعالي: (و جعل بينکم مودة و رحمة) [1] ، و أثر المودة و الرحمة القلبية الاهتمآم و الالتزام بالخدمة، و بالتالي يکون هذا الحفظ راجعا إلي الله الحق، يعني أن الله حفظ أيوب من أذي قومه، و الأمر الآخر بواسطة أهله «رحمة».

و رحمة الممدوحة في القرآن هي بنت افرائم بن يوسف بن يعقوب عليه السلام، و قد بالغت في خدمة أيوب و مداراته، حتي قال عنها الإمام عليه السلام:«رحم الله رحمة امرأة أيوب بصبرها معه علي البلاء، و خفف عنها» [2] .

و قد ذکرت تفاسير أهل البيت و أخبارهم قصة أيوب و ما فيها من نصائح و عبر من حيث توالي النعم و المواهب الحميدة و تواترها عليه و شکره الذي بلغ أعلي مراتب الکمال و فقدان کل شي ء في فترة قصيرة جدا ليختبر في ذلک، و ما لاقاه من قومه من جفاء و هجر بعد ما ابتلي بالدمامل و البثور إلا زوجته الکريمة «رحمة»، فإنها صبرت علي کل تلک البلايا، إن في ذلک لآيات و عبر يهتدي بها المهتدون و يعتبر بها المعتبرون.

و قد حفظت «رحمة» نفسها من الوساوس النفسانية و التسويلات الشيطانية؛ و ذلک لعفتها الشديدة من جهة، و لا نتسابها إلي النبوة من جهة أخري.

و لو أمعنا النظر لوجدنا أن المراد من الحفظ الذي مدحت به رحمة هو القسم الثالث، أي حفظها نفسها، و هو برزخ بين حفظ الله و حفظ أيوب عليه السلام، فرحمة حفظت نفسها من الإلتفات إلي غير زوجها و أدت حقه، فأعانها الله و سددها و مدحها علي هذه السعادة العظمي، فقال في سورة الأنبياء: (و أيوب إذ نادي ربه


أني مسني الضر و أنت أرحم الراحمين- فاستجبنا له فکشفنا ما به من ضر و آتيناه و أهله و مثلهم معهم رحمة من عندنا و ذکري للعابدين) [3] .

و إني أعتقد في قضية حفظ «رحمة» بحکاية خاصة رواها أهل السنة في قصص الأنبياء، قالوا: لما جزع الشيطان من صبر أيوب أراد أن يأتيه من قبل امرأته بمفاد «النساء حبائل الشيطان»، فتعرض لرحمة و قال لها: إن شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتي أرد عليک المال و الأولاد و أعافي زوجک، فرجعت إلي أيوب فأخبرته بما قال لها قال: لقد أتاک عدو الله ليفتنک عن دينک؛ ثم أقسم إن عافاه الله تعالي ليضربها مائة جلدة، فقال الله: (و خذ بيدک ضغثا فاضرب به و لا تحنث) [4] [5] .

إن حفظ الباري «رحمة» من إغواء الشيطان يدل علي حسن حالها، حيث کانت هذه المرأة الموقرة- التي يحکي اسمها عن علو مقامها- تماما عکس أولئک الذين ذکرهم الله في کتابه بقوله (و لئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس کفور) [6] .

و في کتب الشيعة إنها باعت ضفائرها لامرأة أجنبية و حفظت نفسها لحفظ الوجود المقدس النبوي.

و من نظر في حال هذه المرأة المحترمة عرف منزلتها عند الله و مدي صبرها في خدمة النبي عليه السلام، حيث ثابرت سبع سنين في تمريض النبي عليه السلام و صبرت علي أذي


القوم، حتي امتن الله عليها فقال: (فکشفنا ما به من ضر و آتيناه أهله و مثلهم معهم رحمة من عندنا) إلي آخر القصة الشريفة.

أما حفظ فاطمة الصديقة الطاهرة ففي عصمتها الملازمة لوجودها المبارکة فهي لم تغفل دقيقة واحدة. و قد ذکرنا في الخصيصة السابقة أن لطف الله و فضله الصديقة الکبري و کفلها في کل حال، کيف لا و قد قضت عمرها الشريف في کلائة الولاية دائما، و ما قصرت و لا فرطت قط في حفظ أميرالمؤمنين، بل کانت في منتهي غاية في الرحمة و المودة. و کانت فاطمة عليهاالسلام أولي من رحمة في الحفظ- علي المعاني الثلاثة- و کان الشيطان مخذولا محروما کمال الخذلان و الحرمان في ساحتها المقدسة؛ و کانت هي في أعلي درجات القبول في إطاعة زوجها، و في منتهي درجات القرب لشکرها النعم و صبرها علي المصائب و الألم، فصلوات الله عليها و علي آلها الکرام.

أما حرمة آسية بنت مزاحم امرأة فرعون المذکورة في القرآن الکريم، فهي علي قسمين: حرمة عند الله و حرمة عند زوجها فرعون، أما الثانية فکانت نهايتها مأساوية حيث انتهت إلي الإستشهاد تحت التعذيب، و کانت آسية محترمة عند بني اسرائيل- قبل أن تعلن إيمانها- احتراما شديدا يلي احترام فرعون لشدة قربها من فرعون، و کان فرعون يلي لها کل ما تطلب ليکسب ودها، و لئلا يعکر عليها أو يزعجها و لو لحظة واحدة.

و لم تکن ثمة امرأة استولت علي رجل- في الأمور الدنيوية و المشتهيات النفسانية- کما استولت آسية علي زوجها، و کان فرعون راضخا مستسلما لها مأمورا بأمرها مقهورا لها، و إنما قتلها لأنها آمنت بالله و رسوله موسي بن


عمران عليه السلام إيمانا راسخا ثابتا ما تزحزح أمام ألوان العذاب و التهديد، فدخلت بصمودها و صبرها و ثباتها علي الإيمان في عداد النساء الکاملات في الدنيا، و حظيت بسعادة خدمة موسي و حضانته، و دافعت عنه و منعت فرعون مرارا عن قتله عليه السلام، و منعت جواريها و أهل بيتها عن الإقرار بربوبية فرعون، و کان فرعون يحاول جاهدا صرفها عن رب العالمين و کان حاضرا أن يدفع کل شي ء في سبيل ذلک، و لکن دون جدوي، فقد ذهلت عن کل شي ء في الدنيا إلا عن إيمانها القلبي بالنحو المذکور.

أما حرمة فاطمة الزهراء عند الله و عند الرسول و عند أميرالمؤمنين و عند الخلق فهو بديهي کما مر، و يأتي في الأحاديث و الأخبار المعتبرة، و قد عانت ما عانت من ظلم فراعنة زمانها، و کانت لها مکاشفات عند الوفاة، و سيأتي الإستدلال بها إن شاءالله.

و من نماذج حرمتها عند الله تعظيم الرب لها منذ بدو الإيجاد إلي زمان الولادة، فقد أتحفها بتلک الهدايا و التخف السماوية، و أنزل النساء المکرمات و الحوريات، و أرسل إليها الرسل المکرمين و الملائکة المقربين ليلة زفافها يحملون الحلل من الجنة، و خصها بما کان تحت العرش و شجرة طوبي و جنة عدن بالنحو المذکور، و کشف لها عند الموت عن علو الدرجات و نزول الملائکة و سکان السماوات و المقامات المحمودة التي وعدت بها في القيامة من الشفاعة و غيرها.

و من نماذج حرمتها عند النبي صلي الله عليه و اله و سلم: شمها و تقبيل يدها و عنقها و وجهها و جبهتها و ارتشاف ريقها کما يرتشف العسل، و استقبالها و تشييعها کلما دخلت أو خرجت، و وضع وجهه في صدرها قبل النوم، و إعلان مناقبها علي رؤوس


الأشهاد، و أمر الناس بمعرفتها و محبتها و الإقتداء بها، و غير ذلک مما لا يصفه بيان.

و من نماذج حرمتها عند أميرالمؤمنين عليه السلام تحريم النساء عليه ما دامت فاطمة حية، و خدمته في البيت رعاية للحرمة، و عدم مخالفته أوامر فاطمة، و مخاطبتها ب«السيدة» دائما، و إفشاء أسراره الخفية لهما؛ دنيوية و أخروية، و قعوده في بيته بعد وفاتها حزنا عليها و بکاؤه عليها و ملازمته قبرها.

و من نماذج حرمتها عند أهل المدينة أنهم لم يتعرضوا إلي علي و لم يطالبونه بالبيعة ما دامت فاطمة عليهاالسلام علي قيد الحياة.

و أما عقل بلقيس: بنت شراحيل ملکة سبأ في مأرب التي ورثت السلطنة من أبيها و کانت تحکم اثني عشر ألف قائد، تحت إمرة کل واحد منهم مائة ألف نفر.

و قد عاشت بلقيس في عصر النبي سليمان بن داود، و کان لها عرش عظيم طوله ثمانون ذراعا، و قوائمه عن الذهب و الفضة، مرصع بالجواهر النفيسة، بحيث و صفه القرآن بالعظمة فقال: (و لها عرش عظيم) [7] و قال تعالي: (و أوتيت من کل شي ء) [8] حيث جمعت تمام مستلزمات السلطنة إضافة إلي الکمالات الصورية و المعنوية، و کانت غاية في الحسن و الجمال و عارفة باللغات و صاحبة خط حسن، و لم تر لها کفوا في جميع ملوک الأرض، و لم يکن لها نظير قط في تدبير الملک و السلطان.

و کانت و قومها يعبدون الشمس من دون الله، قال تعالي: (وجدتها و قومها


يسجدون للشمس من دون الله و زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون) [9] .

فلما سمع سليمان بن داود عليه السلام خبر بلقيس، بعث إليها مع الهدهد رسالة يدعوها إلي الإسلام: «من عبدالله سليمان بن داود إلي ملکة سبأ بلقيس: (بسم الله الرحمن الرحيم أن لا تعلو علي و أتوني مسلمين) [10] .

فلما قرأت بلقيس- الأميرة المطاعة- الرسالة و فهمت ما فيها، أحضرت ثلاثمائة و ثلاثة عشر من الأعيان و کبار الجيش و الدولة و استشارتهم، و طلبت منهم إبداء الرأي الصائب في کيفية التعامل مع سليمان عليه السلام، و قرأت عليهم الکتاب الکريم، فقالوا في جوابها: (نحن أولو قوة و أولو بأس شديد و الأمر إليک فانظري ماذا تأمرين) [11] فقالت: (إن الملوک إذا دخلوا قرية أفسدوها و جعلوا أعزة أهلها أذلة و کذلک يفعلون) [12] .

و هذا هو العقل و المعرفة و النظر في عواقب الأمور، حيث إن بلقيس مع أنها امرأة يلازمها نقصان العقل، إلا أنها لم تتعجل في محاربة سليمان و هي في موقع القوة تملک کل مستلزمات الحرب و القتال و الدفاع، إلا أنها نظرت إلي عاقبة رعاياها و مآل أمرهم فقالت (إن الملوک إذا دخلوا قرية أفسدوها و جعلوا أعزة أهلها أذلة و کذلک يفعلون) [13] فقررت اختبار سليمان بالهدية، فإن قبلها فهو ملک يجارب،


و إن ردها فهو نبي، و محاربة الأنبياء لا تحمد عقباها، فقالت: (اني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون) [14] . فلما أرسلت الهدية ردها سليمان عليه السلام و أحضرها و عرشها عنده، فاعترفت بالعجز و أقرت بوحدانية الحق تعالي (فلما جاءت قيل أهکذا عرشک قالت کأنه هو و أوتينا العلم من قبلها و کنا مسلمين) [15] .

و يکفي بلقيس- في حسن نظرها في عواقب الأمور و حسن تدبير عقلها الغريزي-أنها نالت شرف المثول بين يدي سليمان و التوفيق للإسلام (قالت رب إني ظلمت نفسي و أسلمت مع سليمان لله رب العالمين) [16] . و هذا هو معني قوله عليه السلام: «العقل ما عبد به الرحمن و اکتسب به الجنان» کما أشرنا سابقا.

و قد اختلفت الأقوال في زواج بلقيس، و المشهور أنها تزوجت رجلا من التبابعة ملوک اليمن، فأعادها إلي مقر سلطنتها في مأرب.

علي أي حال، قال أهل الحق: قسم العلم ألفي جزء، أعطي منه الأنبياء و الملائکة ألفا، و أعطي النبي الخاتم تسعمائة تسعة و تسعين جزئا، و قسم الجزء الباقي أربعة أجزاء، فجعل جزء في الناس عامة، و جزء في العلماء، و قسم جزء منه إلي تصفين، فنصف في أهل القري و الرساتيق، و جزء في النساء. و من هنا عبر بعض أهل العقل عن العقل بأنه «تمام العلوم»، فإذا جمعت صار صاحبها عاقلا کاملا، باعتبار أن هذه العلوم تعقل صاحبها من الوقوع في المهالک و تحفظه و تمنعه.


و في نهج البلاغة: أوحي الله إلي داود «إذا رأيت عاقلا کن له خادما».فالعقول مختلفة، و مراتب العقل غير متناهية، و بعقل المعاد يحصل عقل المعاش. و في عيون أخبار الرضا عليه السلام: «صديق کل امرء عقله و عدوة جهله» [17] .

و هذه المراتب و الدرجات و الکمالات بأجمعها ترجع إلي العلم، و قد مدح الله عز و جل في القرآن الکريم فاطمة الزهراء عليهاالسلام بالعلم، و العلم- کما قال العلامة المجلسي رحمه الله- أفضل من الدنيا و ما فيها، و هو دليل العقل و سراجه.

و قد اطلعت بلقيس علي بعض العلوم، فاهتدت بأنوارها و استدلت بدلالتها فوصفت بالعقل، و شرفت في عاقبة الأمر بالإسلام.

و الصديقة الطاهرة هي معدن العقل و الإيمان، جمع فيها علوم ما کان و ما يکون، و کمالها العلمي أشرف من کمالها العملي؛ لأن التقصير من جهة العلم أشد من التقصير في العمل، و إفاضة الحکمة الإلهية و العلوم اللدنية عليها أکثر من الآخرين، مع کل ذلک تبقي فاطمة عليهاالسلام رشحة من رشحات الوجود المحمدي، و حسنة من حسنات الذات المقدسة العلوية صلوات الله عليها.


پاورقي

[1] الروم: 21.

[2] البحار 12/ 370 ح 25 باب 10 و لم ينسب القول الي احد.

[3] الانبياء: 83- 84.

[4] ص: 44.

[5] البحار 12/ 356 ح 25 باب 10.

[6] هود: 9.

[7] النمل: 23.

[8] النمکل: 23.

[9] النمل: 24.

[10] النمل: 31.

[11] النمل: 33.

[12] النمل: 34.

[13] النمل: 34.

[14] النمل: 35.

[15] النمل: 42.

[16] النمل: 44.

[17] البحار 1/ 87 ح 11 باب 1.