متن عربي روايت نامه
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
... عن سعيد بن المسّيب، قال:
لمّا قتل الحسين بن علي عليهماالسلام و ورد نعيه الي المدينة و ورد الأخبار بجزّ رأسه و حمله الي يزيد بن معاوية و قتل ثمانية عشر من أهل بيته و ثلاث و خمسين رجلاً من شيعته و قتل عليّ ابنه بين يديه و هو طفل بنشابة و سبي ذراريه، أُقيمت المآتم عند أزواج النبيّ صلي اللَّه عليه و آله و سلم في منزل أُمّ سلمة رضي اللَّه عنها و في دور المهاجرين و الأنصار، قال: فخرج عبداللَّه بن عمر بن الخطاب صارخاً من داره لاطماً وجهه شاقّاً جيبه يقول: يا معشر بني هاشم و قريش و المهاجرين و الأنصار! يُستحلّ هذا من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم في أهله و ذريّته و أنتم أحياء ترزقون؟! لا قرار دون يزيد، و خرج من المدينة تحت ليله، لا يرد مدينة الّا صرخ فيها و استنفر أهلها علي يزيد، و أخباره يکتب بها إلي يزيد، فلم
يمرّ بملأ من الناس إلّا لعنه و سمع کلامه، و قالوا هذا عبداللَّه بن عمر ابن خليفة رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و هو ينکر فعل يزيد بأهل بيت رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم و يستنفر الناس علي يزيد، و إنّ من لم يجبه لا دين له و لا إسلام.
و اضطرب الشام بمن فيه، و رود دمشق و أتي باب اللعين يزيد في خلق من الناس يتلونه، فدخل إذن يزيد اليه فأخبره بوروده و يده علي أُمّ رأسه و الناس يهرعون اليه قدّامه و وراءه.
فقال يزيد: فورة من فورات أبي محمّد، و عن قليل يفيق منها.
فأذن له وحده. فدخل صارخاً يقول: لا أدخل يا أميرالمؤمنين! و قد فعلت بأهل بيت محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم ما لو تمکّنت الترک و الروم ما استحلّوا ما استحللت و لا فعلوا ما فعلت، قُم عن هذا البساط حتي يختار المسلمون من هو أحقّ به منک.
فرحّب به يزيد و تطاول له و ضمّه اليه و قال له: يا أبا محمّد! اسکن من فورتک، و اعقل، و انظر بعينک و اسمع باُذنک؛ ما تقول في أبيک عمر بن الخطاب أکان هادياً مهديّاً خليفة رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم وناصره و مصاهره بأختک حفصة، والذي قال: لا يعبد اللَّه سرّاً؟!
فقال عبداللَّه: هو کما وصفت، فأيّ شي ء تقول فيه؟
قال: أبوک قلّد أبي أمر الشام أم أبي قلّد أباک خلافة رسول اللَّه؟
فقال: أبي قلّد أباک الشام.
قال: يا أبا محمّد! أفترضي به و بعهده الي أبي أو ما ترضاه؟
قال: بل أرضي.
قال: أفترضي بأبيک؟
قال: نعم.
فضرب يزيد بيده علي يد عبداللَّه بن عمر و قال له: قُم يا أبامحمّد حتي تقرأ.
فقام معه حتي ورد خزانة من خزائنه، فدخلها و دعا بصندوق، ففتحه و استخرج منه تابوتاً مقفّلاً مختوماً، فاستخرج منه طوماراً لطيفاً في خرقة حرير سوداء، فأخذ الطومار بيده و نشره، ثم قال: يا أبامحمّد! هذا خطّ أبيک؟
قال: اي واللَّه. فأخذه من يده فقبّله.
فقال له: اقرأ.
فقرأه ابن عمر؛ فإذا فيه:
بسم اللَّه الرّحمن الرحيم
إنّ الذي أکرهنا بالسيف علي الإقرار به فأقرررنا، والصدور
و غرة، و الأنفس واجفة، و النيّات و البصائر شائکة ممّا کانت عليه من جحدنا ما دعانا إليه و أطعناه فيه رفعاً لسيوفه عنّا، و تکاثره بالحيّ علينا من اليمن، و تعاضد من سمع به ممّن ترک دينه و ما کان عليه آباؤه في قريش....
فخذ- يابن أبي سفيان- سنّة قومک و اتّباع ملّتک و الوفاء بما کان عليه سلفک من جحد هذه البنيّة التي يقولون إنّ لها ربّاً أمرهم بإتيانها و السعي حولها....
فانظر بعين مبصرة، واسمع بأُذن واعية، و تأمّل بقلبک و عفلک ما هم فيه، و اشکر استخلاف السيّد الرشيد عتيق بن عبدالعزّي علي أُمّة محمّد و تحکّمه في أموالهم و دمائهم و شريعتهم و أنفسهم و حلالهم و حرامهم و جبايات الحقوق التي زعموا أنّهم يجبونها لربّهم ليقيموا بها أنصارهم و أعوانهم فعاش شديداً رشيداً يخضع جهراً و يشتدّ سرّاً، و لا يجد حيلة غير معاشرة القوم.
و لقد وثبت وثبة علي شهاب بني هاشم الثاقب، و قرنها الزاهر، و علمها الناصر، و عدّتها و عددها المسمّي بحيدرة المصاهر لمحمّد علي المرأة التي جعلوها سيّدة نساء العالمين يسمّونها فاطمة، حتي أتيت دار عليّ و فاطمة و ابنيهما الحسن و
الحسين و ابنتيهما زينب و أُمّ کلثوم، و الأمة المدعوّة بفضّة، و معي خالد بن وليد و قنفذ- مولي أبي بکر- و من صحب من خواصّنا، فقرعت الباب عليهم قرعاً شديداً [1] ، فأجابتني الأمة، فقلت لها: قولي لعليّ: دع الأباطيل و لا تلج نفسک إلي طمع الخلافة، فليس الأمر لک، الأمر لمن اختاره المسلمون و اجتمعوا عليه.
... و لو کان الأمر و الرأي لأبي بکر لفشل عن الوصول الي ما وصل إليه من خلافة ابن ابي کبشة، لکنّي أبديت لها صفحتي، و أظهرت لها بصري.
و قلت للحيّين- نزار و قحطان- بعد أن قلت لهم ليس الخلافة إلّا في قريش، فأطيعوهم ما أطاعوا اللَّه، و إنّما قلت ذلک لما سبق من ابن أبي طالب من وثوبه و استيثاره بالدماء التي سفکها في غزوات محمّد و قضاء ديونه و هي ثمانون ألف درهم، و إنجاز عداته، و جمع القرآن، فقضاها علي تَلِيده و طارفه.
و قول المهاجرين و الأنصار لمّا قلت إنّ الإمامة في قريش، قالوا: هو الأصلح البطين أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي أخذ رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم البيعة له علي أهل ملّته، و سلّمنا له بإمرة
المؤمنين في أربعة مواطن، فإن کنتم نسيتموها- معشر قريش- فما نسيناها، و ليست البيعة و لاالإمامة و الخلافة والوصيّة إلّا حقّاً مفروضاً و أمراً صحيحاً، لا تبرّعاً و لا ادّعاءً.
فکذّبناهم، وأقمت أربعين رجلاً شهدوا علي محمّد أنّ الإمامة بالاختيار.
فعند ذلک قال الأنصار: نحن أحقّ من قريش، لأنّا آوينا و نصرنا و هاجر الناس إلينا، فإذا کان دفع من کان الأمر له فليس هذا الأمر لکم دوننا [2] .
و قال قوم: منّا أمير و منکم أمير [3] .
قلنا لهم: قد شهدوا أربعون رجلاً أنّ الأئمة من قريش. فقبل قوم و أنکر آخرون و تنازعوا.
فقلت- و الجمع يسمعون-: ألا أکبرنا سنّاً و أکثرنا ليناً.
قالوا: فمن تقول؟
قلت: أبوبکر الذي قدّمه رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم في الصلاة، و جلس معه في العريش يوم بدر يشاوره و يأخذ برأيه، و کان صاحبه
في الغار [4] ، و زوج ابنته عائشة التي سمّاها اُمّ المؤمنين. [5] .
فأقبل بنوهاشم يتميّزون غيظاً، و عاضدهم الزبير و سيفه مشهور و قال: لا يبايع إلّا عليّ أو لا أملک رقبة قائمة سيفي هذا [6] .
فقلت: يا زبير! صرختک سکن من بني هاشم، أُمّک صفيّة بنت عبدالمطلب.
فقال: ذلک- و اللَّه- الشرف الباذخ و الفخر الفاخر، يابن خنتمة و يابن صهّاک! أُسکت لا أُمّ لک. فقال قولاً فوثب أربعون رجلاً ممّن حضر سقيفة بني ساعدة علي الزبير، فواللَّه ما قدرنا علي أخذ سيفه من يده، حتي وسدّناه الأرض و لم نرَ له علينا ناصراً [7] .
فوثبت إلي أبي بکر فصافحته و عاقدته البيعة [8] ، و تلاني عثمان بن عفّان و سائر من حضر غير الزبير [9] ؛ و قلنا له: بايع
أو نقتلک [10] ، ثم کففت عنه الناس، فقلت لهم: أمهلوه، فما غضب إلّا نخوةً لبني هاشم.
و أخذت أبابکر بيده فأقمته- و هو يرتعد- قد اختلط عقله، فأزعجته الي منبر محمّد إزعاجاً، فقال لي: يا أباحفص! أخاف وثبة عليّ، فقلت له: إنّ عليّاً عنک مشغول؛ و أعانني علي ذلک أبوعبيدة بن الجرّاح کان يمدّه بيده إلي المنبر و أنا أُزعجه من ورائه کالتيس الي شفار الجاذر، متهوناً، فقام عليه مدهوشاً، فقلت له: اخطب! فأُغلق عليه و تثبّت فدهش، و تلجلج و غمض، فعضضت علي کفّي غيظاً و قلت له: قل ما سنح لک، فلم يأت خيراً و لا معروفاً، فأردت أن أحطّه عن المنبر و أقوم مقامه، فکرهت تکذيب الناس لي بما قلت فيه.
و قد سألني الجمهور منهم: کيف قلت من فضله ما قلت؟ ما الذي سمعته من رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم في أبي بکر؟ فقلت لهم: قد قلت: سمعت من فضله علي لسان رسول اللَّه ما لو وددت أنّي شعرة في صدره و لي حکاية.
فقلت: قل و إلّا فانزل، فتبينها و اللَّه في وجهي و علم أنّه لو نزل
لرقيت، و قلت ما لا يهتدي الي قوله.
فقال بصوت ضعيف عليل: ولّيتکم و لست بخيّرکم و عليّ فيکم [11] ، و اعلمو أنّ لي شيطاناً يعتريني [12] - و ما أراد به سواي- فإذا زللت فقوّموني، لاأقع في شعورکم و أبشارکم، و أستغفر اللَّه لي و لکم. [13] .
و نزل فأخذت بيده- و أعين الناس ترمقه- و غمزت يده غمزاً، ثم أجلسته و قدّمت الناس إلي بيعته و صحبته [14] لأرْهِبَه، و کلّ من ينکر بيعته و يقول: ما فعل عليّ بن أبي طالب؟ فأقول: خلعها من عنقه و جعلها طاعة المسلمين قلّة خلاف عليهم في اختيارهم، فصار جليس بيته، فبايعوا و هم کارهون.
فلمّا فشت بيعته علمنا أنّ عليّاً يحمل فاطمة و الحسن و الحسين الي دور المهاجرين و الأنصار يذکّرهم بيعته علينا في أربعة مواطن، و يستنفرهم [15] فيعدونه النصرة ليلاً و يقعدون عنه نهاراً.
فأتيت داره مستيشراً لإخراجه منها [16] ، فقالت الأمة فضّة- و قد قلت لها قولي لعلي: يخرج الي بيعه أبي بکر فقد اجتمع عليه المسلمون فقالت- إنّ أميرالمؤمنين عليه السلام مشغول [17] .
فقلت: خلّي عنک هذا و قولي له يخرج و إلّا دخلنا عليه و أخرجناه کرهاً.
فخرجت فاطمة فوقفت من وراء الباب [18] ، فقالت: أيّها الضالّون المکذّبون! ماذا تقولون؟ و أيّ شي ء تريدون؟
فقلت: يا فاطمة!
فقالت فاطمة: ما تشاء يا عمر؟
فقلت: ما بال ابن عمک قد أوردک للجواب و جلس من وراء الحجاب؟
فقالت لي: طغيانک- يا شقيّ- أخرجني و ألزمک الحجّة، و کلّ ضالّ غويّ.
فقلت: دعي عنک الأباطيل و أساطير النساء و قولي لعلي يخرج.
فقالت: لا حبّ و لا کرامة، أبحزب الشيطان تخوّفني يا عمر؟!
و کان حزب الشيطان ضعيفاً.
فقلت: إن لم يخرج جئت بالحطب الجزل و أضرمتها ناراً علي أهل هذا البيت و أحرق من فيه، أو يقاد عليّ الي البيعة [19] . و أخذت سوط قنفذ فضربت، و قلت لخالد بن الوليد: أنت و رجالنا هلمّوا في جمع الحطب، فقلت: إنّي مضرمها [20] .
فقالت: يا عدوّ اللَّه و عدوّ رسوله و عدوّ أميرالمؤمنين.
فضربت فاطمة يديها من الباب تمنعني من فتحه فرمته فتصعّب عليّ فضربت کفّيها بالسوط فألمّهّا، فسمعت لها زفيراً و بکاءً، فکدت أن ألين و أنقلب عن الباب فذکرت أحقاد عليّ و ولوعه في دماء صناديد العرب، و کيد محمّد و سحره، فرکلت الباب و قد ألصقت أحشاءها بالباب تترسه، و سمعتها و قد صرخت صرخةً حسبتها قد جعلت أعلي المدينة أسفلها.
و قالت: يا أبتاه! يا رسول اللَّه! هکذا کان يفعل بحبيبتک و ابنتک، آه يا فضة! إليک فخذيني فقد و اللَّه قُتل ما في أحشائي من حمل.
و سمعتها تُمَخِّضُ و هي مستندة الي الجدار، فدفعت الباب و دخلت فأقبلت إليّ بوجه أغشي بصري، فصفقت صفقة علي خدّيها من ظاهر الخمار فانقطع قرطها و تناثرت إلي الأرض.
فخرج عليّ و قد ضربت يديها الي ناصيتها لتکشف عنها و تستغيث باللَّه العظيم ما نزل بها، فأسبل عليّ عليها مُلأتَها و قال لها: يا بنت رسول اللَّه! إنّ اللَّه بعث أباک رحمةً للعالمين، و أيمُ اللَّه لئن کشفت عن ناصيتک سائلة الي ربّک ليهلک هذا الخلق لأجابک حتي لايبقي علي الأرض منهم بشراً، لأنّک و أباک أعظم عند اللَّه من نوح عليه السلام الذي غرق من أجله بالطوفان جميع من علي وجه الأرض و تحت السماء إلّا من کان في السفينة، و أهلک قوم هود بتکذيبهم له، و أهلک عاداً بريحٍ صرصرٍ، وأنت و أبوک أعظم قدراً من هود، و عذّب هود- و هي اثنا عشر ألفاً- بعقر الناقة و الفصيل، فکوني يا سيّدة النساء رحمةً علي هذا الخلق المنکوس و لا تکوني عذاباً.
و اشتدّ بها المخاض و دخلت البيت فأسقطت سقطاً سمّاه عليّ: محسناً.
و جمعت جمعاً کثيراً، لا مکاثرة لعليّ ولکن ليشدّ بهم قلبي، و جئت- و هو محاصر- فاستخرجته من داره مکرهاً مغصوباً و
سقته الي البيعة سوقاً [21] ، و إنّي لأعلم علماً يقيناً لاشکّ فيه لو اجتهدت أنا و جميع من علي الأرض جميعاً علي قهره ما قهرناه، ولکن لهنات کانت في نفسه أعلمها و لا أقولها.
فلمّا انتهيت الي سقيفة بني ساعدة قام أبوبکر و من بحضرته يستهزؤن بعليّ.
فقال عليّ: يا عمر! أتحبّ أن أعجّل لک ما أخّرته سواء عنک؟
فقلت: لا، يا أميرالمؤمنين! فسمعني و اللَّه خالد بن الوليد، فأسرع الي أبي بکر، فقال له أبوبکر، مالي و لعمر... ثلاثاً، و الناس يسمعون.
و لمّا دخل السقيفة صبا أبوبکر اليه، فقلت له: قد بايعت يا أباالحسن! فانصرف [22] ، فأشهد ما بايعه و لا مدّ يده اليه، و کرهت أن أُطالبه بالبيعة فيعجّل لي ما أخّره عنّي، و ودّ أبوبکر أنّه لم يرَ عليّاً في ذلک المکان جزعاً و خوفاً منه.
و رجع عليّ من السقيفة و سألنا عنه، فقالوا: مضي الي قبر محمّد فجلس اليه [23] .
فقمت أنا و أبوبکر اليه، و جئنا نسعي و أبوبکر يقول: ويلک
يا عمر! ما الّذي صنعت بفاطمة، هذا واللَّه الخسران المبين، فقلت: إنّ أعظم ما عليک أنّه ما بايعنا و لا أثق أن تتثاقل المسلمون عنه [24] ، فقال: فما تصنع؟ فقلت: تُظهر أنّه قد بايعک عند قبر محمّد.
فأتيناه و قد جعل القبر قبلةً، مسنداً کفّه علي تربته، و حوله سلمان و أبوذر و المقداد و عمّار و حذيفة بن اليمان، فجلسنا بإزائه، و أو عزت الي أبي بکر أن يضع يده علي مثل ما وضع عليّ يده و يقرّبها من يده، ففعل ذلک و أخذت بيد أبي بکر لأمسحها علي يده، و أقول قد بايع، فقبض عليّ يده [25] فقمت أنا و أبوبکر مولياً، و أنا أقول: جزا اللَّه عليّاً خيراً فإنّه لم يمنعک البيعة لمّا حضرت قبر رسول اللَّه صلي اللَّه عليه و آله و سلم، فوثب من دون الجماعة أبوذر جندب بن جنادة الغفاري و هو يصيح و يقول: واللَّه- يا عدوّ اللَّه- ما بايع عليّ عتيقاً. و لم يزل کلّما لقينا قوماً و أقبلنا علي قوم نخبرهم ببيعته و أبوذرّ يکذّبنا.
و اللَّه ما بايعنا في خلافة أبي بکر و لا في خلافتي و لا يبايع لمن بعدي و لا بايع من أصحابه اثنا عشر رجلاً لا لأبي بکر و لا لي [26] فمَنْ فعل- يا معاوية- فعلي و استشار أحقاده السالفة
غيري؟!
وأما أنت و أبوک أبوسفيان و أخوک عتبة فأعرف ما کان منکم في تکذيب محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم و کيده، و إدارة الدوائر بمکة و طلبته في جبل حري لقتله، و تألّف الأحزاب و جمعهم عليه، و رکوب أبيک الجمل و قد قاد الأحزاب، و قول محمّد:«لعن اللَّه الراکب و القائد و السائق»، و کان أبوک الراکب و أخوک عتبة القائد و أنت السائق، و لَم أنسَ أُمّک هنداً و قد بذلت لوحشيّ ما بذلت حتي تکمّن لحمزة- الذي دعوه أسد الرحمن في أرضه- و طعنه بالحربة، ففلق فؤاده و شقّ عنه و أخذ کبده فحمله الي أُمّک، فزعم محمّد بسحره أنّه لمّا أدخلته فاها لتأکله صار جلموداً فلفظته من فيها، فسمّاها محمّد و أصحابه:«آکلةالأکباد» و قولها في شعرها لاعتداء محمّد و مقاتليه:
نحن بنات طارق
نمشي علي النمارق
کالدرّ في المخانق
و المسک في المفارق
إن يُقبلوا نعانق
أو يدبروا نفارق
فراق غير وامق
و نسوتها في الثياب الصفر المرئيّة مبديات وجوههنّ و
معاصمهنّ و رؤوسهنّ يحرصن علي قتال محمّد، إنّکم لم تسلموا طوعاً و إنّما أسلمتم کرهاً يوم فتح مکة فجعلکم طلقاء، و جعل أخي زيداً و عقيلاً أخا عليّ بن أبي طالب و العباس عمّهم مثلهم، و کان من أبيک في نفسه، فقال: و اللَّه يابن أبي کبشة! لأملأنّها عليک خيلاً و رجلاً و أحول بينک و بين هذه الأعداء، فقال محمّد: و يؤذن للناس أنّه علم ما في نفسه أو يکفي اللَّه شرک يا أباسفيان! و هو يري الناس أن لايعلوها أحد غيري، و عليّ و من يليه من أهل بيته فبطل سحره و خاب سعيه، و علاها أبوبکر و علوتها بعده و أرجو أن تکونوا معاشر بني أُميّة عيدان أطنابها.
فمن ذلک قد ولّيتک و قلّدتک إباحة ملکها و عرّفتک فيها و خالفت قوله فيکم، و ما أُبالي من تأليف شعره و نثره، أنّه قال: يوحي إليّ منزلُ من ربّي في قوله:«وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرآنِ) فزعم أنّها أنتم يا بني أميّة.
فبيّن عداوته حيث ملک کما لم يزل هاشم و بنوه أعداء بني عبدشمس، و أنا- مع تذکيري إيّاک يا معاوية! و شرحي لک ما قد شرحته- ناصح لک و مشفق عليک من ضيق عَطَنِک و حرج صدرک، و قلّة حلمک، أن تعجل فيما وصّيتک به و مکّنتک منه من شريعة محمّد صلي اللَّه عليه و آله و سلم و أُمّته أن تبدي لهم مطالبته بطعن أو
شماتة بموت أو ردّاً عليه فيما أتي به، أو استصغاراً لما أتي به فتکون من الهالکين، فتخفض ما رفعت و تهدم ما بنيت، و احذر کلّ الحذر حيث دخلتَ علي محمّد مسجده و منبره و صدق محمّداً في کلّ ما أتي به و أورده ظاهراً، و أظهر التحرّز و الواقعة في رعيّتک، و أوسعهم حلماً، و أعمّهم بروايح العطايا، و عليک بإقامة الحدود فيهم و تضعيف الجناية منهم لسبباً محمّد من مالک و رزقک و لا تُرهم أنّک تدع للَّه حقّاً و لا تنقض فرضاً و لا تغيّر لمحمّد سنّة فتفسد علينا الأمّة، بل خذهم من مأمنهم، و اقتلهم بأيديهم، و أبدّهم بسيوفهم و تطاولهم و لا تناجزهم، و لِنْ لهم و لا تبخس عليهم، و افسح لهم في مجلسک، و شرّفهم في مقعدک، و توصّل الي قتلهم برئيسهم، و أظهر البِشر و البشاشة بل أکظم غيظک و اعف عنهم يحبّوک و يطيعوک، فما آمن علينا و عليک ثورة عليّ و شبليه الحسن و الحسين، فإن أمکنک في عدّة من الأمّة فبادر و لاتقنع بصغاره الاُمور، واقصد بعظيمها و احفظ وصيّتي إليک و عهدي و اخفه و لا تبده، و امتثل أمري و نهيي و انهض بطاعتي، و إياک و الخلاف عليّ، و اسلُک طريق أسلافک، و اطلب بثارک، و اقتصّ آثارهم، فقد أخرجت إليک بسرّي و جهري، و شفّعت هذا بقولي:
معاوي إنّ القوم جلّت اُمورهم
بدعوة مَن عمّ البريّة بالوتري
صبوت الي دين لهم فأرابني
فابعد بدين قد قصمت به ظهري
و إن أنس لا أنسَ الوليد و شيبة
و عتبة و العاص السريع لدي بدر
و تحت شغاف القلب لدغ لفقدهم
أبو حکم أعني الضئيل من الفقري
اولئک فاطلب، يا معاوي، ثارهم
بنصل سيوف الهند و الأسل السمري
و صلّ برجال الشام في معشرهم
هم الأسد و الباقون في أکم الوعري
توسّل الي التخليط في الملّة التي
أتانا به الماضي المسمّوه بالسحري
و طالب بأحقاد مضت لک مظهراً
لعلّة دين عمّ کلّ بني النضر
فلست تنال الثار إلّا بدينهم
فتُقتل بسيف القوم جيد بني عمري
لهذا لقد ولّيتک الشام راجياً
و أنت جدير أن تؤول الي صخري
قال: فلمّا قرأ عبداللَّه بن عمر هذا العهد، قام إلي يزيد فقبّل رأسه و قال: الحمدللَّه- يا أميرالمؤمنين!- علي قتلک الشاري ابن الشاري، و اللَّه ما أخرج أبي إلّي بما أخرج إلي أبيک، و اللَّه لا رآني أحد من رهط محمّد بحيث يحبّ و يرضي، فأحسن جائزته و برّه، و ردّه مکرّماً.
فخرج عبداللَّه بن عمر من عنده ضاحکاً، فقال له الناس: ما قال لک؟ قال: قولاً صادقاً لوددت أنّي کنت مشارکه فيه. و سار راجعاً إلي المدينة، و کان جوابه لمن يلقاه هذا الجواب.
و يُروي أنّه أخرج يزيد لعنه اللَّه إلي عبداللَّه بن عمر کتاباً فيه عهد عثمان بن عفّان فيه أغلظ من هذا و أدهي و أعظم من العهد الذي کتبه عمر لمعاوية، فلمّا قرأ عبداللَّه العهد الآخر قام فقبّل رأس يزيد لعنهما اللَّه و قال: الحمد للَّه علي قتلک الشاري ابن الشاري، و اعلم أنّ والدي عمر أخرج إليّ من سرّه بمثل هذا الذي أخرجه إلي أبيک معاوية، و لا أري أحداً من رهط محمّد و أهله و شيعته بعد يومي هذا إلّا غير منطوٍ لهم علي خير أبداً.
فقال يزيد: أفيه شرح الخفا يابن عمر؟
و الحمد للَّه وحده و صلّي اللَّه علي محمّد و آله.
قال ابن عباس: أظهروا الايمان و أسرّوا الکفر، فلمّا وجدوا عليه أعواناً أظهروه. [27] .
پاورقي
[1] الامامة والسياسة، ج 1، ص 30
[2] شرح نهج البلاغه ابن أبي الحديد، ج 2، ص 24؛ الامامة والسياسة، ج 1، ص 22 و 25.
[3] شرح نهج البلاغه ابن ابي الحديد، ج 2، ص 24؛ تاريخ طبري، ج 3، ص 206 و 218؛ الامامة والسياسة، ج 1، ص 25؛ طبقات ابن سعد، ج 3، ص 182؛ سيره ابن هشام، ج 3، ص 472؛ الرياض النضرة، ج 1، ص 211.
[4] الامامة والسياسة، ج 1، ص 23؛ الرياض النضرة، ج 1، ص 212؛ سيره ابن هشام، ج 3،ص 473
[5] تاريخ طبري، ج 3، ص 210.
[6] تاريخ طبري، ج 3، ص 202؛ الامامة والسياسة، ج 1، ص 28؛ الرياض النضرة، ج 1، ص 209.
[7] الامامة والسياسة، ج 1، ص 28؛ الرياض النضرة، ج 1، ص 218.
[8] الامامة والسياسة، ج 1، ص 26؛ سيره ابن هشام، ج 3، ص 472؛ الرياض النضرة، ج 1، ص 211؛ الغدير، ج 7، ص 75
[9] شرح نهج البلاغه ابن ابي الحديد، ج 2، ص 25 و 39؛ تاريخ طبري، ج 3، ص 203 و 206؛ الامامة والسياسة، ج 1، ص 28؛ سيره ابن هشام، ج 3، ص 472؛ الرياض النضرة، ج 1، ص 211
[10] شرح نهج البلاغه ابن ابي الحديد، ج 2، ص 21؛ تاريخ طبري، ج 3، ص 203
[11] تاريخ طبري، ج 3، ص 210؛ طبقات ابن سعد، ج 3، ص 182؛ الرياض النضرة، ج 1، ص 217؛ سيره ابن هشام، ج 3، ص 473
[12] الامامة والسياسة، ج 1، ص 34
[13] الرياض النضرة، ج 1، ص 231.
[14] الامامة والسياسة، ج 1، ص 26؛ الغدير، ج 7، ص 75؛ سيره ابن هشام، ج 3، ص 472
[15] شرح نهج البلاغه ابن ابي الحديد، ج 6، ص 13؛ الامامة والسياسة، ج 1، ص 29
[16] الامامة والسياسة، ج 1، ص 30
[17] شرح نهج البلاغه ابن ابي الحديد، ج 2، ص 38.
[18] شرح نهج البلاغه ابن ابي الحديد، ج 2، ص 21؛ الامامة والسياسة، ج 1، ص 30
[19] شرح نهج البلاغه ابن ابي الحديد، ج 2، ص 56؛ و ج 6، ص 48؛ تاريخ طبري، ج 3، ص 202
[20] الامامة والسياسة، ج 1، ص 30؛ شرح نهج البلاغه ابن أبي الحديد، ج 6، ص 48؛ الغدير، ج 7، ص 77.
[21] شرح نهج البلاغه ابن ابي الحديد، ج 2، ص 21؛ الامامة والسياسة، ج 1، ص 30
[22] الامامة والسياسة، ج 1، ص 28 و 29
[23] الامامة والسياسة، ج 1، ص 31.
[24] الامامة والسياسة، ج 1، ص 30
[25] الامامة والسياسة، ج 1، ص 29
[26] شرح نهج البلاغه ابن ابي الحديد، ج 2، ص 21؛ تاريخ طبري، ج 3، ص 203؛ الامامة والسياسة، ج 1، ص 28؛ الرياض النضرة، ج 1، ص 209
[27] بحارالانوار، ج 8، ص 222؛ الفتن و المحن (ج 30 بحار) ص 287؛ دلائل الامامة،ج 2.